معظم القراء يعرفون الألغاز (Puzzles) على تنوعها وأشكالها، ويوجد نوع من هذه الألغاز يتوقف حله على كلمة أو مصطلح أو معنى أو جزء من صورة، لذلك يمكننا أن نقول إن ألغاز الشرق الأوسط سواء -الكبير أو الجديد أو القديم- يتوقف حلها على كلمة واحدة "الجمهورية الإسلامية الإيرانية". وهذا ليس تفخيماً أو تضخيماً أو تعظيماً لقدرات إيران، ولكنها حقيقة الأحداث في المنطقة التي أصبحت مشكلاتها وأزماتها وصراعاتها تبدأ عند طهران وتنتهي بها، وهو أمر يصعب أن ينكره أو يتنكر له أحد. وربما إذا طرحنا بعض الأسئلة التي تبحث عن إجابات، وهي أسئلة لا تنتهي؛ قد نقرب الأمر إلى الأذهان، وتتفتح العيون على حقيقة الأحداث.. ومن أهم هذه الأسئلة: مَن الذي يعبث بأمن واستقرار العراق دون وجه حق؟ ومن الذي يتدخل في شؤون لبنان السياسية ويبث الفرقة بين لحمته الاجتماعية؟ ومن الذي يدفع منطقة الخليج العربي إلى حافة حرب لا يعلم نتائجها وآثارها إلا الله وحده؟ ومن الذي يورط الشرق الأوسط في سباق تسلح نووي؟ ومن الذي يسعى إلى تصدير حالة عدم الاستقرار إلى الدول العربية ويشجع الطائفية في المنطقة بزعم دعم المستضعفين ومحاربة المستكبرين؟ ومن الذي يزرع بذور الفتنة بين السُّنة والشيعة في دول المنطقة ويثير الأقليات؟ ومن الذي يريد فرض انتمائه العرقي والعقائدي على الدول الأخرى؟ ومن الذي يشجع العمليات الإرهابية ويدعمها بالمال والسلاح؟ ومن الذي يتدخل في الشؤون الداخلية في اليمن والسودان وفلسطين؟ ومن الذي يريد فرض مصالحه وهيمنته على المنطقة والاعتراف به كقوة إقليمية عظمى؟ قد يجيب البعض على كل أو معظم هذه الأسئلة قائلاً إنها الولايات المتحدة؛ وهذا حقيقي ومقبول، وقد تكون إجابة البعض الآخر إنها الدولة العنصرية العبرية الصهيونية، وهذا أيضاً صحيح وواقعي. ولكن ربما لم يدرك بعضهم أن إيران هي الإجابة الوحيدة الصحيحة على كل هذه الأسئلة، وهي الدولة التي تشارك إسرائيل تهديدها وعدوانها على الدول العربية، وتمثلان معاً أكبر تهديد لأمن واستقرار المنطقة. كما أن إيران تظل وحدها المفتاح لكل الألغاز في الشرق الأوسط، وإذا جرى القضاء على طموحاتها وتحجيم تهديداتها وإعادتها إلى وضعها كدولة طبيعية في المنظومة الإقليمية، فسيتم وضع حد لمعظم أسباب عدم الاستقرار وافتقاد الأمن من الخليج إلى المحيط. لقد أصبحت إيران "الفارسية الشيعية" القاسم المشترك في كل الأزمات والمشكلات التي تعاني منها المنطقة، وبعد أن كانت إسرائيل "الصهيونية العنصرية" وحدها هي الزعيمة بلا منازع في إثارة التهديدات وإشعال الفتن وصنع الحروب والصراعات، نافستها الجمهورية الإسلامية. ومن المفارقات الغريبة والطريفة في آن واحد أن طهران تطالب إسرائيل برفع احتلالها عن الأراضي الفلسطينية والرحيل إلى أوروبا أو أي مكان آخر، وتتمسك في الوقت ذاته بضرورة رحيل القوات الأميركية عن العراق، وتتشدق دائماً برفضها الاحتلال والاستيلاء على أراضي الغير بالقوة، وفي الوقت نفسه تنسى أو تتناسى أنها تحتل أرضاً عربية بالقوة؛ وترفض كل دعاوى الحل السلمي لها، وتسعى إلى فرض الأمر الواقع عليها لتكرس احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى"، وهذا الأمر يشير إلى حقيقتين مهمتين: الحقيقة الأولى أن "المستعمر الإيراني" يريد أن يبعد نظر الآخرين عن مطامعه الاستعمارية وتوجهاته التوسعية من خلال تركيزه المستمر على ما يقوم به غيره من المستعمرين. أما الحقيقة الثانية فهي أن طهران تؤمن في قرارة نفسها بالاحتلال وقبول فرض الأمر الواقع، وما تعلنه وتصرح به لا يخرج عن كونه نوعاً من ذر الرماد في العيون. كما أن إيران الثورة التي تطالب الغير بعدم التدخل في شؤونها الداخلية واحترام سيادتها ومياهها الإقليمية، ضربت بعرض الحائط احترام سيادة الآخرين واخترقت مياههم الإقليمية، وتدخلت بكل قواها في شؤون العراق الداخلية فور سقوط الطاغية ونظامه، وأخذت تعبث بأمنه واستقراره وتشجع على الحرب الأهلية الطائفية بزعم أنها تدعم الشيعة العراقيين، الذين صدقوا للأسف دعاوى الأخوة المذهبية والروابط الدينية، ونسوا أن طهران تسعى للثأر من العراق شعباً ودولة، لأنها لم تنس معاناة ثماني سنوات من الحرب شارك فيها الشيعة العرب في العراق. جاء النظام الإيراني الجديد، وحاول أن يقنع العالم بأسره بأن فيه تيارات سياسية مختلفة وديمقراطية، تنصهر في بوتقتها كل الآراء والاتجاهات من معتدلين وإصلاحيين ومحافظين ومستقلين وغيرهم، رغم أن الواقع والحقيقة يشيران بوضوح كافٍ إلى وجود ديكاتورية عقائدية تدعمها قوة شبه عسكرية تنفرد بالسلطة والسطوة، لذلك فإن من الوهم أن يكون هناك أمل في نظام حاكم ينادي بالهيمنة ويتمسك بالعرقية الفارسية ويسعى إلى فرض أجندته المتطرفة على المنطقة، لذا لم يكن غريباً أن تكون له يد فيما يحدث في لبنان والسودان واليمن وفلسطين؛ تحقيقاً لمصالحه فقط وإثباتاً لهيمنته وحدها وتكريساً لأهدافه وتوجهاته. يشهد تاريخ المنطقة الحديث والمعاصر على أن المنطقة لم تواجه صراعاً طائفياً مذهبياً "إسلامياً - إسلامياً"، سوى بعد تدخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العراق ولبنان واليمن والبقية تأتي. لقد نجحت في إذكاء الصراع بين "المسلمين العرب" ووقفت تستمتع بالنتائج وتحصي العائد، فالوضع كان مغرياً، فقد نجحت في أن تدعم الشيعة العرب ليدينوا لها بالولاء السياسي والعقائدي والعسكري، وفي الوقت ذاته نجحت في الانتقام من العرب السُّنة وأثبتت قدرتها على إشعال المنطقة، كما نجحت مرة ثالثة في أن تكون الطرف الذي يحصد نتائج هذا الصراع مستغلة الغباء الطائفي وفقدان المواطنة وضياع الهوية لدى العرب؛ الذين لم يكلفوا أنفسهم عناء التوقف للحظات للسؤال عن السبب في مساعدة إيران لهم، لأن المؤكد أن الإجابة ستكون واضحة، فطهران لا تساندهم من أجل سواد عيونهم، بل لأنها تصب في النهاية في مصلحتها كقوة تحاول فرض هيمنتها على المنطقة، وانتزاع الاعتراف بها كقوة إقليمية كبرى أو عظمى. لقد استطاعت إيران أن توصل رسالتها للجميع بأنها القوة القادرة على تصدير الثورة وزرع الفتن وإشعال الصراعات، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وجعلت الجميع يرى في إيران المخرج، والكلمة السحرية لحل كثير من الألغاز، والقطعة الناقصة التي يمكن من خلالها فهم الصورة كاملة وجعلها أكثر وضوحاً، ولم يكن اللقاء الإيراني- السعودي، واللقاء الإيراني- الأميركي في مؤتمر بغداد سوى البداية، لأن إيران تؤكد بذلك أن الطريق إلى بيروت يمر بطهران، والطريق إلى بغداد يمر بالملالي، والطريق إلى القدس حتماً سيكون إيراني الطابع، وطريق طهران للهيمنة يمر بالنووي العسكري. من سخرية القدر أن حرب الخليج الأولى كانت لإضعاف الثورة الإيرانية والقضاء على طموحاتها، فيما جاءت حرب الخليج الثانية لإضعاف أحد أهم خصوم إيران، ثم كانت حرب الخليج الثالثة لتمنح إيران الفرصة لفرض مواقفها وتزيد من نفوذها داخل أراضي العراق عدوها اللدود، وتحاول استعادة مجد الإمبراطورية الفارسية القديمة، وتعيد رسم المنطقة وفق رؤاها. لا يلوح في الأفق ما يشير إلى أن العرب، كل العرب، قد شعروا بمدى خطورة أن تكون إيران هي مفتاح الألغاز في المنطقة، ولم يدركوا حتى الآن مدى تعقيد اللغز الذي صنعته طهران وتداعياته، وسعيها الدؤوب لتكون مفتاحه وصاحبة حله، لذا فإن على العرب أن يأخذوا بجدية أفعال طهران وتوجهاتها العدائية، ويتبنوا سياسة واستراتيجية مناسبة لمواجهتها قبل أن تظهر إلى الوجود "دولة صهيونية توسعية" جديدة في المنطقة.