عندما اتخذ الرئيس بوش قراراً قبل عامين بتعيين "بول وولفوفيتز"- نائب وزير الدفاع سابقاً- رئيساً للبنك الدولي، كان لزاماً على البيت الأبيض أن يسعى لوضع حد للتذمر الذي سرى بين صفوف الدول الأوروبية، التي رأت في هذا الوجه المنتمي إلى "المحافظين الجدد"، رمزاً وتجسيداً للأحادية والصلف الأميركيين. ولبرهة من الوقت، بدا "وولفوفيتز" كما لو كان قادراً على تبديد هذه المخاوف، لدرجة أنه شدد على إدارة بوش وحثها على الطريقة المثلى التي تستطيع بها الولايات المتحدة مد يد العون والمساعدة لأفقر شعوب القارة الإفريقية. ولكن الذي تكشف مؤخراً من تعالي وتناغم الأصوات المطالبة باستقالته من رئاسة البنك الدولي، لم يكن سوى جزء من الاحتجاج على تورطه في تعيين إحدى صديقاته المقربات، في وظيفة مريحة وعالية الدخل، في إحدى وظائف البنك الدولي. ومهما يكن، فإن جوهر العراك الدائر الآن حول ما إذا كان قد أصبح لزاماً على "وولفوفيتز" أن يغادر منصبه الحالي أم يبقى في رئاسة البنك الدولي، إنما هو امتداد للنزاع حول الرئيس بوش نفسه، وعلاقاته المضطربة مع بقية العالم كله، لا سيما مع البنك الدولي والأمم المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية. والقاسم المشترك بين هذه الجهات الثلاث الأخيرة معاً، أنها تقف موقفاً مغايراً ومفارقاً لرؤية إدارة بوش وأجندة البيت الأبيض، منذ غزو العراق في صيف عام 2003. وفي يةم الجمعة الماضي، وفي الوقت الذي شهدت فيه العاصمة واشنطن اجتماع وزراء مالية الدول الأعضاء في البنك، فقد نشط "وولفوفيتز" في العمل السري من وراء الكواليس، للحصول على ما يلزمه من دعم للحفاظ على وظيفته الحالية. لكن وباستثناء المساندة التي لا يزال يحظى بها من قبل إدارة بوش، فليس ثمة كثيرين ممن يبدون حماساً لدعمه والوقوف معه في محنته العصيبة التي يواجهها الآن. وسواء كان في عواصم الدول الأجنبية، أم بين طاقم موظفي البنك الدولي نفسه، فقد لوحظ تبخر فورة الحماس الأولى التي أبداها "وولفوفيتز" لحظة توليه منصبه، لشن حملة شعواء على الفساد، الذي رأى فيه سبباً رئيسياً وراء تفاقم أوضاع فقراء الدول النامية على وجه الخصوص، ما أن تصل تلك الحملة إلى مراجعة أداء القروض المالية الممنوحة لكل من العراق وباكستان وأفغانستان، مع العلم أن هذه هي الدول الثلاث التي تعطيها الولايات المتحدة الأميركية أهمية استراتيجية حيوية في أجندتها. وقال موظفون ذوو سجل مهني طويل من الخدمة في البنك الدولي، إن وولفوفيتز لم يعول على الخبراء في رسم سياساته الخاصة بالتنمية الدولية، قدر تعويله على آراء اثنين فحسب من مستشاريه ومساعديه ممن عملوا معه سابقاً في إدارة بوش. وهناك من أعضاء مجلس إدارة البنك، من أجرى مقارنة بين الأساليب السرية الخفية التي تتخذ بها بعض القرارات ذات الصلة بسياسات البنك، وتلك الأساليب السرية المميزة لإدارة بوش. ومن جانبها ذهبت "نانسي بيرد سول" –رئيسة مركز التنمية العالمي، وهو جهة تعنى بمراقبة المساعدات المالية الممنوحة لأفقر شعوب العالم- إلى الحديث عن تنامي الشكوك حول قرارات "وولفوفيتز"، داخل صفوف إدارة وموظفي البنك الدولي. يذكر أن هذا الأخير كان قد تسلم منصبه في البنك الدولي، وهو يحمل معه حقيبة مثقلة بالبضائع السياسية. والمعروف أن العادة قد جرت منذ تأسيس البنك في أعقاب الحرب العالمية الثانية، على أن يختار له رئيس أميركي، وهي العادة التي لطالما أثارت كثيراً من التذمر والململة بين الدول الأعضاء في البنك من غير الأميركيين، مع مرور الحقب والسنوات. وقد تضاعف ذلك الشعور أكثر من ذي قبل، عند إصرار إدارة بوش على تعيين "وولفوفيتز" لمنصب رئاسة البنك على وجه التحديد. وكان الاعتراض الرئيسي عليه، كونه أحد المهندسين الأساسيين لغزو العراق، بحكم منصبه السابق كنائب لوزير دفاع الحرب، دونالد رامسفيلد، وقتئذ. وقال أحد محافظي البنك، مستعيداً ذكريات ذلك النزاع الذي صاحب ترشيح "وولفوفيتز" للمنصب، إن إطفاء تلك النيران قد استغرق وقتاً ليس بالقصير. ولما كان وولفوفيتز مدركاً لحقيقة دخوله على مؤسسة لها شكوكها العميقة فيه وفي إدارة بوش التي عينته، فقد كان طبيعياً أن يتوقع منه المرء أن يفعل كل ما بوسعه في سبيل تبديد تلك الشكوك والمخاوف، غير أنه لم يفعل بالطبع. يذكر أن هذا "المحافظ" الذي رفض ذكر اسمه في هذا التقرير، كان من أشد مؤيدي وولفوفيتز بين محافظي البنك. وعلى حد إفادة أفراد من طاقم موظفي البنك، فقد بذل "وولفوفيتز" من الجهود في بادئ توليه لمنصبه باتجاه تبديد الشكوك والمخاوف التي أحاطت بترشيحه لرئاسة البنك. من بينها على سبيل المثال، أنه جعل من مكافحة الفقر في أفريقيا أولوية له، وأبدى تجاهه ما أبدى من همة وحماس ونشاط، على غرار ما فعل من قبل يوم أن كان سفيراً لبلاده في إندونيسيا، من انغماس في الثقافة المحلية الإندونيسية وانقضاض لم يتراجع على الطاغية السابق، الجنرال "سوهارتو". أما حملته التي شنها على الفساد داخل البنك الدولي، فقد اتسمت بطابع فكري أخلاقي غير مطعون فيه، ولا بد من الإقرار بأنه كان محقاً فيها، حتى وإن طالت تلك الحملة بعض القادة الدول الذين لا يتورعون عن التهام بضعة ملايين من الدولارات، من المساعدات التي يقدمها البنك لبلادهم. ولكن مشكلة "وولفوفيتز" أنه جاء مدفوعاً إلى كل ذلك بدوافع خارجية أميركية، ما يضعه أمام تحد كبير مع مهنيي ومسؤولي مؤسسة عرفت عبر تاريخها الطويل بمقاومتها وتمردها لأي مؤثرات خارجية عليها. بل الأسوأ من ذلك أنه تورط شخصياً في ممارسة ما نهى عنه وسعى إلى محاربته داخل المؤسسة. ولهذا السبب، فهو يواجه الآن خطر زحزحته من منصبه. ديفيد إي. سنجر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محرر الشؤون الخارجية في صحيفة "نيويورك تايمز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"