تتهيّأ فرنسا ليوم 22 أبريل الجاري، موعد الدورة الأولى من انتخابات رئاسيّة تنمُّ عن ظواهر مقلقة فعلاً. والحال أن عدداً كبيراً من الفرنسيّين، العاديّين منهم والمتابعين، يلتقي على القول إن الانتخابات المذكورة ربّما أدّت إلى نتائج سياسيّة واجتماعية أكثر إقلاقاً على المديين القصير والبعيد. فمن الصدام الذي شهدته "محطة الشمال" للقطارات في باريس وما أثاره من تعليقات سجاليّة أطلقها بعض السياسيّين والكتّاب، إلى التوقّعات السوداء في ما يخصّ مستقبل العلاقة بضواحي العاصمة وفقرائها وملوّنيها، خصوصاً في حال وصول نيكولا ساركوزي إلى رئاسة الجمهوريّة، وصولاً إلى احتجاب المثقفين عن النقاش السياسيّ المتعلّق بالانتخابات والشؤون العامّة للبلد، يلوح إطفاء الحريق الفرنسيّ مهمّة أشدّ فأشدّ تعقيداً. لكن أسوأ ما تنضح به فرنسا اليوم يتمثل في شخصيّات مرشّحيها الرئاسيّين وما يقولونه ويعلنونه مما لا يرقى بتاتاً إلى برامج. فالمرشّحة الاشتراكيّة سيغولين رويال ارتكبت من "الهفوات" الكبرى ما لا يُحصى عدده (تحدّثت مثلاً عن مقاطعة كيبيك "الحُرّة" في كندا، ثم امتدحت "سرعة العدالة الصينيّة في التنفيذ"، ما فُسّر إعجاباً بأحكام الإعدام العديدة والسريعة هناك). وهي، في هذا، وفي ما ينمُّ عنه من ضحالة وانعدام إلفة مع موضوعها المفترَض، تشخيص حادّ لأزمة الحزب الاشتراكيّ المديدة والمكبوتة. فإذا صحّ أن الأخير عاش دائماً، ومنذ ولادته، متعدّد الرؤوس متنافر التوجّهات، يبقى صحيحاً أن سنوات الثمانينيات الميترانيّة قضت على كلّ احتمال قياديّ يخرج من عباءة الحزب. هكذا أحرق رئيس الجمهوريّة الراحل وجوهاً تاريخيّين مثل رئيس الحكومة السابق ميشل روكار، "ونفى" إلى أوروبا ومؤسّساتها الاتّحاديّة وجهاً كجاك ديلور. وعلى العموم استفاق الحزب الاشتراكيّ بعد عهدي فرانسوا ميتران المتلاحقين على حالة من الانعدام القياديّ الذي تحوّل معه "الموظّف" و"أستاذ المدرسة"، رئيس الحكومة السابق ليونيل جوسبان مرشّحاً رئيساً ينجح رئيس "الجبهة الوطنيّة" العنصريّ جان ماري لوبن في إطاحته بعد الدورة الانتخابيّة الأولى. وفي هذه الغضون بلغ التباعد السياسيّ والأيديولوجي داخل الحزب ما لم يبلغه مطلقاً من قبل، فإذا بنا، داخل مؤسّسة حزبيّة واحدة، أمام اشتراكيّين يؤيّدون السوق الحرّة والنيو- ليبراليّة بمعنى يكاد يكون ثاتشريّاً، في مقابل اشتراكيّين آخرين يعارضون السوق الحرّة بمعنى يكاد يكون تروتسكيّاً. ولئن توقّع بعض المراقبين أن ينشقّ الحزب الاشتراكيّ في حال الرسوب المرجّح لسيغولين رويّال في الانتخابات الوشيكة، فإن آخرين يقرؤون اختيار رويّال بصفته، من جهة، دليلاً على اللاخيار، ومن ثم الوقوع على "الخيار" السهل، ومن جهة أخرى، إعلاءً صارخاً للشكل على المضمون. وهذا البند الأخير هو ما تنمّ عنه ضحالة المرشّحة الاشتراكيّة المرفقة بولعها بالحملات الانتخابيّة الأميركية وطابعها الترويجيّ، وبالميل الفائق إلى شخصنة المسائل السياسيّة والاجتماعيّة التي لا تعوزها الجديّة. وما يقال في تردّي اليسار ومسؤوليّة فرانسوا ميتران عن ذلك، يمكن قوله في تردّي اليمين ومسؤوليّة رئيس الجمهوريّة الحاليّ جاك شيراك عنه. ذاك أن الأخير، من خلال عمليّات عزل وإقصاء متتالية، كما من خلال لعبة استبدال رؤساء الحكومات وتقريب بعضهم وتبعيد بعضهم الآخر، أحكم سيطرته الأحاديّة على كتلة اليمين الفرنسيّ العريضة. وهكذا لم يعد من الصدفة أنه ما أن يُذكر اسم ساركوزي حتى يُذكر بوصفه المتمرّد على القيادة الشيراكيّة للحزب الديغوليّ الحاكم، فيما تكرّ سبحة النزاعات والحساسيّات الشخصيّة التي ربطت وتربط بين الاثنين. والأمر نفسه يصحّ، على اختلاف السياق، في فرانسوا بايرو الذي بات مرشّح "الوسط" انطلاقاً من رصيد هزيل مفاده تمرّده على الزعامة المطلقة التي فرضها جاك شيراك على جبهة اليمين العريضة. وتجد أزمة الأشخاص القياديّين تتمّتها في شحّ القضايا وفي تفاهتها. ذاك أن ما ساد السنوات الشيراكيّة من مراوحة بين دعوات إصلاحية للاقتصاد والإدارة وعجز عن إنفاذ الإصلاح الفعليّ، وبين تصعيد نبرة العداء لأميركا والانضواء في معظم سياساتها (أو فيها كلّها ما خلا حرب العراق)، لم يُبق إلا قضيّة واحدة للتعبئة السياسيّة هي الأمن في ارتباطه بالهجرة والأجانب، ومن ثمّ بالروائح العنصريّة التي قد تنبعث من الموضوع هذا. وهنا يمكن الوقوع على سرّ ساركوزي الذي التقط هذه المسألة فبشّر الفرنسيّين بدولة قويّة لم تعد الدولة الميترانيّة- الشيراكيّة ترمز إليها. وكما فعلت سيغولين رويّال، أضاف النجم الديغوليّ الصاعد أهميّة الصورة والدعاية إلى اندفاعته السياسيّة، مؤكّداً، هو الآخر، على تحديث وتجديد لا يزال الشكليّ فيهما أوضح من الجوهر والمضمون. وقد اختار ساركوزي لنفسه موقعاً وسطاً بين شيراك ولوبن: فهو يستعير من لغة الثاني ما يثير القلق لدى رئيس الجمهوريّة وبيئة السياسيّين التقليديّين، إلا أنه يستعير من ماضيه الشرعيّ ومشاركته في الحكومات الشيراكيّة والحزب الديغوليّ ما يميّز به نفسه عن لوبن ورعاعه الفاشيّ المقيم خارج التقليد السياسيّ ومؤسّساته. ولئن لم يتمالك زعيم "الجبهة الوطنيّة" نفسه حين اتّهم ساركوزي بسرقة أفكاره حيال الهجرة والمهاجرين، فهو مضى لاحقاً خطوة أبعد إذ عيّره بأصوله كمهاجر فيما شدّد على كونه وحده الفرنسيّ "الأصيل". ووسط صراع سياسيّ كهذا، غثه يفوق سمينه بلا قياس، تقدّم بايرو كمرشّح لوسط يُراد له الرسملة على ضحالة اليسار وعدوانيّة اليمين في ظلّ ساركوزي. بيد أن ما يملكه بايرو من وعود، هو الصادر عن قطاع زراعيّ تجاوزته الديناميّة الرأسماليّة والتعدّديّة للمدينة، يتمحور حول إنعاش المناطق على نحو لا يخلو من حنين إلى فرنسا الفلاحيّة والديغوليّة القديمة. وغنيّ عن القول إن الحنين، دائماً، طريق مسدودة إلى المستقبل. على أن أزمة السياسيّين في فرنسا تتّصل عميقاً بمشكلات البلد، الظاهر منها والمستتر، ومن ثم بالعجز عن التوصّل إلى إجماع حدّ أدنى يؤسّس للتعامل معها على نحو معقول. أما المشكلة الظاهرة والتي يسهل تبيّنها فمؤدّاها عجز دولة الرعاية والتقديمات الاجتماعيّة عن المضي في وظيفتها هذه في ظلّ العولمة ومنافساتها وتحدّياتها. فمؤسّسات القطاع العامّ تعاني عجوزاً ماليّة متعاظمة، وبدوره يئنّ الاقتصاد الفرنسيّ ككلّ تحت وطأة أعراض مُركّبة من العجز في الميزان التجاري إلى بطء النموّ انتهاء بوجود أعلى نسبة بطالة في بلدان أوروبا الغربيّة والشماليّة. وعلى رغم هذا يصطدم التغيير بقوّة النقابات العماليّة وتنظيمها مثلما يصطدم بتقليد ثقافيّ وسياسيّ عريق في فرنسا حلّت الدولة دائماً في صدارته فيما استمرت الليبراليّة غريبة عنه (بحيث يعني الفرنسيّون بكلمة "ليبرالية" ما يعنيه البريطانيّون والأميركيّون بكلمة "نيوليبرالية"). غير أن ما هو أبعد من ذلك يتّصل بالتاريخ الفرنسيّ ذاته: فمنذ ثورة 1789 والمجتمع الفرنسيّ نصفان يصل التناحر بينهما أحياناً إلى تخوم الاحتراب الأهليّ. فهذا ما حصل مع "قضية درايفوس" في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، ثم عاد ليحصل مع حكومة "الجبهة الشعبيّة" التي رأسها ليون بلوم في 1936، ومن بعدها كان الانقسام العميق بين مؤيّدي حكومة فيشي المتحالفة مع الألمان وبين معارضيها الذين خرجت المقاومة من بيئتهم. وهذه السمة للتاريخ الفرنسيّ، التي شطرت السكان إلى "شعب اليسار" و"شعب اليمين"، هي التي تحمل بعض المراقبين اليوم على توقّع نشوب "الحرب الأهليّة" بين الدولة من جهة والنقابات والضواحي من جهة أخرى في حال فوز نيكولا ساركوزي بالرئاسة. وأخيراً، وهو مما يفاقم كل توتّر في فرنسا إذ يشكّل خلفيّة له، أن الأيدولوجيا الفرنسيّة، إن صحّ التعبير، إنما أنشأت نفسها وطوّرتها على نحو ضدّيّ. وبالمعنى هذا يتراءى لبعض دارسي ذاك البلد أن "الهويّة الفرنسيّة" هي خلاصة الشعور بالدونيّة حيال الأميركيّ، والشعور بالتعالي حيال الجزائريّ، والشعور بالحذر حيال الألمانيّ الذي بدأ يفد إلى القارّة إثر توحّد شطريه الغربيّ والشرقيّ مع انتهاء الحرب الباردة. وهذا، بطبيعة الحال، سبب وجيه لقلق مشروع.