بالرغم من حالة التمييع السائدة في السياسة الخارجية العربية يشتد الاستقطاب في السياسة الداخلية. الاستقطاب في الخارج شيء طبيعي بين العرب من ناحية وإسرائيل والولايات المتحدة من ناحية أخرى. أما الاستقطاب في الداخل في حياة المواطنين فإنه مصطنع، يفرغ الطاقة، ويحيّد عن الهدف. هو استقطاب مزيف لخلق معارك وهمية بدلاً من المعارك الطبيعية التي حيّدتها نظم الحكم في السياسة الخارجية في قضايا الحرب والسلام بالنسبة للقضية الفلسطينية، والتبعية والاستقلال بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية. ويصل حد الاستقطاب في الداخل إلى حد الحروب الأهلية كما حدث في لبنان والجزائر بين الإخوة- الأعداء. فريق يكفّر فريقاً، وفريق يخوّن فريقاً. فشُق الصف الوطني وضاعت وحدة الأوطان. واختفت ثقافة الحوار. وأصبحت الأوطان مهددة ليس فقط بقوى التفتيت الخارجية وإثارة النعرات الطائفية والعرقية بل أيضاً بقوى التفتيت الداخلية صراعاً على السلطة بين فرقاء الوطن الواحد. الاستقطاب الخارجي استقطاب رئيسي تتحدد طبقاً لقوانين الصراع فيه حياة الأمم والشعوب، في حين أن الاستقطاب الداخلي لا نفع منه في قضايا مفتعلة. وبلغة الأيديولوجيا، الاستقطاب الخارجي تناقض رئيسي، والاستقطاب الداخلي تناقض ثانوي. والرئيسي له الأولوية على الثانوي. الأول استقطاب عملي يغيِّر مسار الشعوب ويتحدد به مستقبل الأمم. في حين أن الثاني استقطاب نظري فقهي لا ينتج منه أي أثر عملي. ولا يحقق تقدماً لشعب بل يساهم في تأخره. ولا يحل مشكلة في حياة الناس بل يزيد في تهميشها. ومظاهر الاستقطاب كثيرة. أهمها الاستقطاب الديني: حجاب أم سفور؟ شريعة إلهية أم اختيار إنساني، جبر شرعي أم حرية شخصية؟ وبطبيعة الحال تنقسم الآراء بين فريقين، محافظين وليبراليين، تقليديين وتجديديين، سلفيين وعلمانيين. ويتحزب الناس. وينتصرون لهذا الفريق أو ذلك. يزايد فريق في الدين والإيمان. ويزايد الفريق الآخر في الحداثة والعصرية. ويدخل الإحراج الشخصي والخوف الاجتماعي كحجج وبراهين. فلا أحد يجرؤ على عصيان الشريعة. ولا أحد يريد التنازل عن حرياته الشخصية. والفضيلة في السلوك وليست في الغطاء. توحيد الأذان من مؤذن حسن الصوت من خلال أجهزة الإعلام الحديثة أم الإبقاء على تعدديته بأصوات كريهة، رجالاً وأطفالاً، تتداخل فيما بينها نظراً لقرب المساجد بعضها من بعض، وعلو مكبرات الصوت والمنارات. ويختلف الناس بين الإبقاء على التعدد في الأذان حتى ولو أدى ذلك إلى صراخ وصخب وصم للآذان. فلكل مسجد أذانه. ولكل مؤذن صوته، وهي عامة الناس، وبين التوحيد المتناغم إبقاء على الغاية وهي اليقظة مع حسن الوسيلة وهو الصوت الواحد المتناغم. وهو رأي النخبة والدولة. استعمال مكبرات الصوت أم الصوت الطبيعي؟ يصر دعاة الإيمان على استعمال مكبرات الصوت فلا فرق بين الإيمان والإعلام. ومكبرات الصوت أكثر قدرة على إيقاظ الوسنان وغفلة النائم. ولماذا لا تستعمل التكنولوجيا في الدين؟ ويتبارى الأغنياء في شراء أحدث الأجهزة الإليكترونية من مضخات الصوت من المحسنين والمتصدقين وفعلة الخير لنيل حسن الثواب في الآخرة بعد الثراء في الدنيا. ويرى دعاة الحياء والاطمئنان أن الصوت الطبيعي أقرب إلى القلب ومدعاة للخشوع من تضخيمه بالآلات الحديثة كما يتم في الأفراح والموالد وافتتاح المحلات التجارية. ويفترق الناس بين من يرى أن الإيمان إذاعة وانتشار ودعاية وإعلان وإعلام، وبين من يرى أن الإيمان أقرب إلى التقوى والقلب والصمت والاطمئنان الداخلي دون حاجة إلى صخب خارجي. توحيد خطب المساجد يوم الجمعة أم تركها متنوعة طبقاً لاختيار الأئمة؟ من يرى التوحيد هم رجال الدين الرسميون ووزراء الأوقاف والشؤون الدينية الذين يودون الإبقاء على خطب المساجد تحت الرقابة حماية للبلاد من التطرف والشطط، وإدخال الدين في السياسة، واتقاء شر المعارضة بما للمساجد من أثر في تكوين أذهان العامة. وينقسم الناس بين مؤيد لتوحيد الخطبة وهم رجال الدولة مع بعض البسطاء من العامة وبين المبقين على تعددها. فكل بيئة لها مصالحها، وأهل مكة أدرى بشعابها، وهي المعارضة. كيف يحدد أول يوم العيد، بالعين المجرّدة أم بالحسابات الفلكية؟ العين المجرّدة يؤيدها النص، والحسابات الفلكية أدق وأضبط من العين التي تختلف قوة وضعفاً، والتي قد يمنعها الغمام والضباب والأتربة من حسن الرؤية. كيف يتم تحديد أول الشهر القمري والعالم الإسلامي ممتد بين أقصى مشارق الأرض ومغاربها. من المغرب إلى الصين. كما انتشر في نصف الكرة الغربي أيضاً. وقد تصل فروق التوقيت إلى أربع وعشرين ساعة أي إلى يوم وليلة كاملين. ويتحزب ناس لكل من الرأيين. ويدب الخلاف بين المسلمين، وتتبادل الاتهامات بالتخلف والتقليد أو بالجري وراء العلم الحديث، وتوحيد ما لا يُوحّد وإلا لتعددت وقفة عرفات. حلال أم حرام؟ في كل خطوة وفي كل فعل وأمام كل شيء حتى فقدت الأشياء براءتها الأصلية، وفقد المسلمون الثقة بالطبيعة الخيرة، وتهيَّبوا العالم المملوء بالشرور والمحرَّمات حتى استولى عليه الأعداء وسيطروا عليه. الحلال والحرام معروف في الشرع. وما سكت عنه الشرع فهو في مرتبة المباح أو العفو. فلم السؤال والتضييق عما سكت عنه الشرع وتركه فسحة ورحمة؟ هذا ما فعله بنو إسرائيل بالسؤال فيحرمه الله تدريباً لهم. فضاقت عليهم الشريعة، فلفظوها مثل السؤال عن لون البقرة ونوعها وشكلها وحجمها ويفترق الناس فريقان، الأول مع التشديد مزايدة في الإيمان، والثاني مع التخفيف رحمة بالناس. وهكذا يتم تفرع الاستقطابات الدينية في مصر، وتتحول من الاستقطاب الديني إلى الاستقطاب الاجتماعي: فساد بعض رجال الدين، وعلاقاتهم الجنسية الحرة من أجل إثارة الشقاق بين المسلمين والأقباط، الزواج المختلط بينهما، التنصير أو الأسلمة، تحول النصراني إلى الإسلام أو المسلم إلى النصرانية، إباحة الطلاق أو تحريمه في المسيحية حتى يختلف الناس بين الإباحة والتحريم، وتقع النزاعات الطائفية في الدول التي تخلو من النزاعات العرقية والمذهبية. وقد يتجاوز الاستقطاب المستوى الديني الاجتماعي إلى المستوى الديني السياسي في عدة موضوعات أخرى. الإبقاء على مادة الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع في الدستور أم إلغاؤها؟ إبقاؤها يرضي المؤمنين حتى ولو كانت صورية فارغة من أي مضمون. وإلغاؤها يرضي العلمانيين. فالدستور للجميع وليس للمسلمين فقط. وبالبلاد أقباط لا تطبق الشريعة الإسلامية عليهم طبقاً للشريعة ذاتها، ويحتدم الخلاف، وتنقسم الأمة على موضوع شكلي وإن كانت له دلالة رمزية. وتخاطر بوحدة عنصري الأمة المسلمين والأقباط. وينفر الناس من الشريعة إذا كان المقصود منها تطبيق الحدود دون إعطاء الحقوق. والشريعة واجبات وحقوق. فلا رجم إلا إذا توفرت للشباب إمكانيات الزواج المبكر. ولا قطع ليد إلا إذا توفرت له أسباب الحياة الكريمة من عمل وكسب ومسكن وتعليم وعلاج أي الحاجات الأساسية للمواطن. دولة دينية أم دولة مدنية؟ وهو استقطاب مقنع يخفي صراعاً سياسياً بين الحكومة و"الإخوان". الحكومة تتهم "الإخوان" بالقول بالدولة الدينية وهو مضاد للدستور الذي يمنع تأسيس أحزاب سياسية على أسس دينية حماية للوحدة الوطنية. و"الإخوان" يتهمون الحكومة بالدولة المدنية التي تطبق القانون الوضعي الذي قد يتعارض أحياناً مع الشريعة الإسلامية. والمعارضة تطالب بتعديل الدستور حفاظاً على الحريات العامة وقواعد الديمقراطية وتداول السلطة. والحكومة تمارس دور الدولة الدينية باستعمال الرموز الدينية في أجهزة الإعلام وجهاز الدولة. وفي العراق هناك استقطاب سُني- شيعي؟ وكلما اشتدت المقاومة العراقية وغرقت القوات الأميركية في رمالها كما غرقت من قبل في أوحال فيتنام تحول الصراع بين المقاومة والاحتلال إلى صراع بين السُّنة والشيعة. ويزيد الاستقطاب الديني والاجتماعي والسياسي الاستقطاب الرياضي بين الأندية الرياضية خاصة فرق كرة القدم. وتخرج المظاهرات في الشوارع تحمل الأعلام الحمراء ليس دفاعاً عن الاشتراكية، والأعلام البيضاء ليس من أجل السلام. وتملأ أخبار النجوم والرياضة الصحف والمجلات أكثر من صور "الشهداء" وأبطال "المقاومة". وإن كان لابد من الاستقطاب في الداخل فلا أحد يتحدث عن الاستقطاب بين الأغنياء والفقراء. إن الاستقطاب ضد الحوار. كما أن التوحيد ضد الخلاف. وبدلاً عن الاستقطاب بالحوار بين وجهات النظر المتعددة. الاختلاف حق شرعي. وحله بالحوار الوطني، والاجتماع على حد أدنى من المصالح الوطنية ضد مخططات التجزئة والتقسيم. ولماذا تقع الأوطان إذن بين المطرقة والسندان، مطرقة عوامل التفتيت العرقي والمذهبي والطائفي من قبل القوى الخارجية، وعوامل الاستقطاب الداخلي بفعل القوى الداخلية؟ ولماذا تصبح الثقافة الوطنية ضحية بين عجز أبنائها وجهل علمائها؟