في الخامس من الشهر الحالي، وفي مطار "هيثرو" بلندن، استقبلت المملكة المتحدة بمشاعر يغلب عليها الارتياح العميق ثمانية من جنود البحرية الملكية، وسبعة من جنود مشاة البحرية الملكية "المارينز"، كانت القوات البحرية للحرس الثوري الإيراني قد اختطفتهم في شمال الخليج العربي في الثالث والعشرين من مارس الماضي. أما الأسرى السابقون ذاتهم، فقد كانوا غير متأكدين عند وصولهم من حقيقة المشاعر التي سيتم استقبالهم بها، وخصوصاً أن الكثيرين في بريطانيا ينظرون الآن إلى حادثة أسرهم على أنها كانت حادثة مُخزية ستواجه الحكومة البريطانية أسئلة صعبة بشأنها بالتأكيد. من هذه الأسئلة المنتظر إثارتها على سبيل المثال: هل كان قد جرى تحديث قواعد الاشتباك المطبَّقة هناك أم لا؟ وهل كان الجنود أنفسهم يفهمونها بشكل تام؟ خصوصاً إذا ما أخذنا في اعتبارنا أن هذا الحادث لم يكن الحادث الأول من نوعه الذي يتعرض له جنود البحرية البريطانية في مياه الخليج، حيث سبق لإيران اختطاف بحارين بريطانيين وستة من عناصر "المارينز" عام 2004. وهناك سؤال آخر أكثر مرارة أيضاً وهو: لماذا لم يكن هناك أي غطاء جوي من أي نوع لهذه المفرزة من الجنود التي كان يقودها ضابط خصوصاً في تلك اللحظة الحاسمة التي كانوا قد بدؤوا عندها يغادرون السفينة التي كانوا يقومون بتفتيشها؟ وأيضاً: ما هو الإجراء الذي كان يتعين على الفرقاطة "كورنوول" أن تتخذه بعد أن ظهرت القوارب الإيرانية المقتربة على شاشات رادارها؟ وللأمانة، بمجرد أن تم القبض على هؤلاء البحارة فإنني اعتقدت شخصياً أن التعامل مع تلك الأزمة المُحرجة سيكون ممتازاً، حيث كان لديَّ انطباع بأن زمام الأمر في وزارة الخارجية البريطانية في أيدي خبراء من ذوي المعرفة والخبرة العميقتين بشؤون إيران. وكان هذا هو الوضع بالفعل، كما تبدى في السلوك الهادئ والحازم في آن الذي اتبعته لندن، والذي كوفئ بأسرع مما كان الكثيرون يعتقدون. كان الكثيرون يعتقدون أن الأزمة ستطول، وخصوصاً بعد أن بدت إيران في مرحلة من المراحل وكأنها مصممة على إجراء محاكمة للجنود في طهران. ولو أن ذلك قد حدث بالفعل، لكانت الأزمة قد استطالت لشهور عديدة، وهو ما كان سيؤدي إلى وضع كارثي للطرفين معاً. وإذا ما كان خطاب رئيس الوزراء البريطاني "توني بلير" قد ظهر أحياناً حاداً ومبالغاً في انفعاله بعض الشيء، فإننا يجب ألا ننسى أنه كانت هناك حالة من الإحباط والاحتقان والغضب المتصاعد في بريطانيا، لم يكن بمقدور أي شاغل لمقر رئاسة الوزراء في "10 دواننج ستريت" أن يتجاهلها. في ذلك الوقت لم يكن معروفاً أن البحارة و"المارينز" قد وضعوا في حبس انفرادي، وتعرضوا لتهديدات بحبسهم لمدة سبع سنوات، إذا لم يعترفوا بأنهم كانوا داخل المياه الإقليمية الإيرانية عند القبض عليهم. يذكر في هذا السياق أن رئيس الوزراء البريطاني قد صرح بأنه لم تجر أية مفاوضات مع الإيرانيين، وهو ما كان يجافي الحقيقة قليلاً. فاللورد "ترايزمان" وزير الدولة البريطاني للشؤون الخارجية عقد لقاءات عديدة مع "رسول موحديان" السفير الإيراني في لندن، كما أن "جيفري أدامز" السفير البريطاني الجديد في طهران، أجرى اتصالات منتظمة مع وزارة الخارجية الإيرانية. كما أن حلقة الوصل الرئيسية -بالهاتف- كانت تشتغل بين "علي لاريجاني" كبير المفاوضين الإيرانيين،و"السير ناجيل شاينوالد" مستشار رئيس الوزراء البريطاني، الذي عيِّن سفيراً لبريطانيا في واشنطن. وفي مرحلة من المراحل كانت هناك خطة لإرسال وفد بريطاني دبلوماسي رفيع المستوى إلى طهران، غير أنه تم التراجع عن ذلك الخيار بسبب عدم ضرورته. وهناك احتمال كبير لأن تكون بريطانيا قد أشركت دولاً أخرى لتوصيل رسائل إلى نظام طهران. ومن تلك الدول على سبيل المثال تركيا وسوريا اللتين ذُكر اسماهما في هذا السياق. ومن المؤكد أن هناك الكثير من الأشياء التي ستتكشف لاحقاً من الجانبين، وإن كنت أنا شخصياً لا أدري حتى هذه اللحظة، ما هو على وجه الدقة الشيء الذي أقنع الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بأن يقرر هكذا فجأة الإفراج عن تلك المجموعة من البحارة. وإن كان هو قال إنه فعل ذلك بعد أن تعهدت بريطانيا بأن أفراد قواتها المسلحة لن يدخلوا المياه الإقليمية الإيرانية مرة ثانية، على الرغم من حقيقة أن بريطانيا قد أصرت منذ بداية الأزمة وحتى نهايتها على أن سفينة الشحن التي كان هؤلاء البحارة يقومون بتفتيشها كانت موجودة على بعد 1.7 ميل بحري داخل المياه الإقليمية العراقية، وأنها قد ظلت هناك لأيام. وقد دعمت الحكومة العراقية هذا الرأي. كما أن هناك سؤالاً يمكن طرحه في هذا السياق يدعم هذا الرأي أيضاً وهو: لماذا لم يرافق الحرس الثوري الإيراني المجموعة البريطانية عند عودتها مرة ثانية إلى المياه الإقليمية العراقية بعد الإفراج عنها، إذا ما كان يعتقد حقاً أن المسألة برمتها تتعلق بخطأ ملاحي؟ في قرارة نفسي أشك في أن الحرس الثوري الإيراني قد قام بتلك العملية دون معرفة باقي أجنحة النظام في طهران، أو أن إيران قد أقدمت على العملية لأنها كانت تتطلع إلى إجراء تبادل للأسرى. وإن كنت لا أعرف سوى عدد محدود من الدول التي يصل عدم التنسيق بين أقسامها وإدارتها إلى الدرجة الموجودة في إيران. ففضلاً عن العملاء الإيرانيين الخمسة الذين تم القبض عليهم في أربيل في شهر يناير الماضي، وحرموا من الاتصال بالقنصلية الإيرانية هناك حتى وقت قريب، فإن الصحف الأميركية دأبت على التلميح إلى أن القوات الأميركية في العراق تحتفظ بإيرانيين آخرين لديها. من المرجح أن النداء الذي وجهه مجلس الأمن الدولي من أجل إطلاق سراح البحارة المختطفين، والذي تلته رسالة أشد لهجة من الاتحاد الأوروبي الذي تستورد منه إيران نصف وارداتها، قد جعلا القيادة الإيرانية تدرك أنها قد أصبحت معزولة أكثر من ذي قبل. وهناك احتمال آخر، وهو أن الإيرانيين ونتيجة لأن اقتصادهم يفتقر إلى الاستثمارات، وخصوصاً في مجال صناعتهم النفطية المهمة، كانوا يدركون أنهم لو استمروا في احتجاز البحارة لوقت أطول فإن المزيد من العقوبات الاقتصادية كان سيفرض عليهم. لقد سعى الرئيس أحمدي نجاد إلى القيام بانقلاب دعائي عندما أعلن الإفراج عن الرهائن البريطانيين الخمسة عشر في نهاية خطاب له استمر 90 دقيقة، ثم قام باستعراضهم بعد أن جرى إلباسهم بزات أنيقة جديدة أمام كاميرات التلفزيون الإيراني. وما قام به في الحقيقة ليس إلا ضرباً من التناقض الصارخ. علاوة على ذلك رأينا الإيرانيين يلومون بريطانيا لأنها تقوم بتجنيد النساء في بحريتها –المعني بذلك المجندة "فاي تيرني" التي كانت ضمن المجموعة التي تم اختطافها- ولكنهم هم حجزوها في سجن انفرادي لعدة أيام، بعيداً عن باقي زملائها في المجموعة.