هناك مفارقة ساخرة بدأت تحيط اليوم بتورط إدارة بوش في دوامة الأزمات الشرق أوسطية. وتتلخص هذه المفارقة في أنها شنت الحرب على العراق، أي على الدولة الخطأ، التي ثبت أنها لم تكن تمثل تهديداً نووياً لأحد. أما اليوم فإن المرجح هو أنها لن تشن حرباً جديدة أخرى على طهران، على رغم أن هذه الأخيرة، تبدو أكثر عزماً وجدية في سعيها لحيازة السلاح النووي. ولذلك فربما أصاب الذين أصروا في وقت مبكر على أن إيران أكثر خطراً من العراق، حتى قبل شن الحرب على بلاد الرافدين. ومهما يكن فإن السؤال الملح المطروح الآن هو: ما الذي يمكن للولايات المتحدة فعله إزاء إيران؟ وفي الحقيقة فإن هذا السؤال، يبدو أقرب إلى اللغز منه إلى أي شيء آخر، بالنظر إلى قلة الخيارات المتاحة أصلاً. ومن هنا فقد كثر الحديث هذه الأيام عن الدروس التي يمكن لواشنطن أن تتعلمها من تجربة احتجاز طهران مؤخراً للبحارة البريطانيين الخمسة عشر. فعلى رغم الضغوط النفسية التي مورست عليهم، إلا أن تلك الأزمة قد انتهت بمصافحة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لهم، أثناء وداعه لهم، وهم يرتدون الملابس المدنية الإيرانية التي أعطيت لهم. ومن ينظر إلى صورة الرئيس نجاد في تلك اللحظة، يلاحظ أنه يبدو كما لو كان يودع زواراً حلوا ضيوفاً ببلاده على مدى أسبوعين، أمضوهما في نزهة استحمام شمسي في "ريفيرا" إيران. ولعل العبارة الوحيدة المفقودة في ذلك الوداع هي: نتمنى أن نراكم في زيارة أخرى قريبة لبلادنا! وبحسب إفادات البحَّارة المعتقلين، عن المعاملة التي تعرضوا لها هناك، فإن المرء يشك كثيراً في أن يكون أحدهم بذاك الحماس الذي يدفعه إلى زيارة إيران ثانية. فقد جرى اعتقالهم تحت تهديد فوهات البنادق المصوبة نحوهم في المياه الإقليمية الواقعة بين العراق وإيران. ثم تم ترحيلهم جواً إلى طهران بعد أن عصبت أعينهم، وقيدت أيديهم إلى ظهورهم بالأغلال الحديدية. وما أن وصلوا إلى العاصمة، حتى تم حبسهم في زنزانة استندت فيها ظهورهم إلى حائط إسمنتي، بينما واصل حراسهم من جنود الحرس الثوري، إخافتهم بقعقعة بنادقهم وأسلحتهم دون توقف. وما أشبه الليلة بالبارحة، في مثل هذا النوع من الترويع والتخويف، على غرار المعاملة ذاتها التي خضع لها الرهائن الدبلوماسيون الأميركيون على يد عناصر الحرس الثوري في عام 1979. وفي مؤتمر صحفي عقد معهم في وطنهم بريطانيا، إثر إطلاق سراحهم، قال بعضهم إنه اعتقد أنه سوف يُعدم. لكن بدلاً من ذلك، فقد جرى تصويرهم وحبسهم في زنزانة صغيرة ضيقة لمدة ستة أيام، حرموا خلالها من مقابلة أي كان. ثم أعقب ذلك، فصلهم عن بعضهم بعضاً، وجرى تجريدهم من ملابسهم العسكرية، ثم ألبسوا "بيجامات" نوم عادية، وتم حبس كل واحد في زنزانة حبس انفرادي صغيرة، تعرضوا فيها للضغوط النفسية التي مورست عليهم. أما المرأة الوحيدة بين البحارة المعتقلين، فقد خُدعت بحيث جعلوها تظن أن زملاءها الآخرين قد تم الإفراج عنهم. وضمن ما قيل لها عنهم، إنهم اعترفوا بأنه قد ألقي القبض عليهم في المياه الإقليمية الإيرانية، ولذلك فقد أفرج عنهم وجرى ترحيلهم إلى بريطانيا. ولو لم يفعلوا ذلك، فربما كانوا سيضطرون لإمضاء عدة سنوات داخل السجون الإيرانية. وإنني لعلى يقين تام بأن قوة الطيران البريطانية الخاصة، المرابطة في مكان ما قرب "هيرفورد" الإنجليزية، كانت منهمكة بالتخطيط والإعداد لتنفيذ عملية إنقاذ ما، بينما كان يجري ما يجري للبحارة المعتقلين في طهران. وفيما لو كان جرى تنفيذ مهمة كهذه، فما من شك في أنها ستكون على درجة من الصعوبة والشدة، على نحو ما اكتشف الأميركيون ذلك، أثناء محاولة سابقة لهم لإنقاذ الرهائن المحتجزين داخل السفارة الأميركية في بدايات أيام الثورة الإيرانية. وبالعودة إلى ما تمثله إيران من خطر نووي على الأمن الدولي اليوم، فالملاحظ أن رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، يعد من أشد المحذرين من مخاطر الإجراءات المتشددة إزاء طهران. لكن مع ذلك، فقد أفلحت الدبلوماسية التي استخدمتها بلاده -وهي دبلوماسية لا قبل لنا نحن الأميركيين بمثلها بعد، لكونها جمعت بين العصا والجزرة في آن- في إطلاق سراح البحارة المعتقلين وإعادتهم جميعاً سالمين إلى أرض وطنهم! يشار إلى أن واشنطن قد راقبت عن كثب النهج البريطاني في حل أزمة البحارة، وأن الحوار لم ينتهِ بعد في أروقة إدارة بوش، حول الكيفية التي يمكن بها كبح جموح إيران ووضع حد لتطلعاتها. وعلى رغم التصريحات الصادرة عن إدارة بوش، حول كون كل الاحتمالات والخيارات لا تزال على الطاولة، إلا أن الأرجح هو أن النزعة الواقعية الجديدة التي جاء بها وزير الدفاع الجديد "روبرت غيتس"، ستحول دون تبني خيار الحل العسكري للأزمة الإيرانية. وسواء كان اعتقال طهران للبحارة البريطانيين، من قبيل التخطيط "الميكيافيللي" الذكي، الرامي إلى لي ذراع الغرب، أم مجرد حدث تلقائي عابر، في إطار استمرار المواجهات بين الطرفين، فإن الملاحظ هو تفادي بريطانيا لاستخدام العمل العسكري ضد طهران. وعلى رغم الغموض الكثيف الذي يلف القيادة الإيرانية، وصعوبة التكهن بسلوكها وردود أفعالها، إلا أن الواضح هو أنه لا يزال في مقدور الدبلوماسية الناجعة الحكيمة، فل عزم المغالاة والعناد الإيرانيين. جون هيوز مساعد وزير الخارجية الأميركية في إدارة ريجان ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"