ثمة شعور عند عامة العرب أن أوروبا لا تملك سياسات أو رؤى خاصة بها نحو شرقنا العربي والإسلامي، بل إن مواقف أوروبية عديدة جعلت العلاقة بين العرب وأوروبا موضع ريبة. فحين تلبي قيادات مهمة في أوروبا دون تردد دعوة الولايات المتحدة إلى خوض حرب ضد العراق فإن ذلك يوحي باستعداد إيديولوجي وتعبوي لديها يدفعها لشن حرب على العرب، حتى وإن كانت تلك الحرب لمصلحة غيرها. وهذا ما يؤكده لدى العرب موقف أوروبا الرسمي الداعم لإسرائيل وحروبها ضد العرب منذ تأسيسها إلى اليوم رغم عدالة قضية فلسطين ورغم وجود أنصار كثر للفلسطينيين بين مثقفي الأوروبيين. ومهما تكن المبررات التي تقدمها الولايات المتحدة وإسرائيل لسياساتهما المضادة لمصالح العرب والمسلمين فإنها ليست مبررات أوروبية، فلأوروبا علاقات تاريخية مديدة مع العرب، وروابط الجغرافيا التي تفرض مصالح مشتركة جعلت العرب ينسون بسرعة ما لحق بهم من فواجع ومآسٍ على مر التاريخ بسبب الأطماع الأوروبية في بلادهم. فقد نسي العرب مسلمين ومسيحيين أن بلادهم تعرضت لعشر حملات صليبية على مدى مائتي عام، قتل فيها نحو عشرين مليون إنسان، ولم يكن العرب مسؤولين عن الرد العثماني في القرون الوسطى. وقد تحالف العرب مع بريطانيا في مطلع القرن العشرين على أمل أن يبنوا علاقات وطيدة مع الغرب كله، لكنهم فوجئوا بأن أوروبا تمزق بلادهم في اتفاقية "سايكس- بيكو"، وتخطط لاحتلال بلادهم، وهكذا تقاسم البريطانيون والفرنسيون الوطن العربي، وأخذت إيطاليا حصتها آنذاك. وقد تمكن العرب من الحصول على الاستقلال وكانت المفارقة أن أول ما فعلوه هو توطيد العلاقة مع البلدان الأوروبية التي تحرروا منها أملاً في فتح صفحات جديدة في التاريخ. فقد عقدت مصر والعراق والسودان أفضل العلاقات مع بريطانيا، وعقدت سوريا ولبنان وتونس والجزائر والمغرب أفضل العلاقات مع فرنسا، رغم أن هاتين الدولتين هما اللتان وضعتا إسرائيل في قلب العالم العربي، بل شنتا مع إسرائيل حرباً على مصر عام 1956. وفي كل مرة يتعرض فيها العرب لعدوان من إسرائيل تقف الدول الأوروبية الصديقة للعرب ضدهم متحالفة مع إسرائيل، وتعلن أن التزامها بمستقبل إسرائيل غير قابل للنقاش، ويدرك العرب أن أصدقاءهم الأوروبيين جاهزون لمساعدة إسرائيل ضدهم، وكأنه ليس في حساب أوروبا أي التزام أدبي بأمن جيرانها العرب. إن تشخيص تاريخ العلاقة بين العرب وأوروبا يكشف عن ما يشبه الحالة المرضية المازوخية لدى العرب، حيث يبدون وكأنهم يحبون من يعذبهم ويمتهن كرامتهم. ولقد كانت المفارقة أن يتأثر بثقافة الغالب مثقفون عرب كبار باتوا يقولون وهم خارجون لتوهم من نير الاحتلال في القرن العشرين إن مستقبل بلادهم يقع في الضفة المقابلة من المتوسط، وإن سبيل التقدم هو التماهي مع النموذج الأوروبي. ونحن اليوم لا ننكر على هؤلاء المفكرين الكبار أن يتأثروا بالجوانب العلمية وبالتقدم الذي حققته أوروبا، ولكننا نستغرب أي شعور بالدونية أمام الثقافة الأوروبية. وإذا تذكرنا مقالات سلامة موسى وطه حسين وكثير ممن فتنتهم ثقافة أوروبا نجد نسياناً كاملاً لموقف الغرب من بلادهم، وعشقاً للغرب وإن كان من طرف واحد، وهو ما غفره كثير من العرب لمفكريهم المستغربين ووجدوا فيه رؤية موضوعية تنسجم مع روح التسامح الرحبة التي هي من صلب أخلاق العرب. لقد وصف كثير من المؤرخين تاريخ العلاقة بين أوروبا والعرب بأنه تاريخ مواجهات فاشلة، ومحت الذاكرة العربية أو أوشكت أن تمحو المرادفات الأوروبية لكلمة مسلم وهي تاريخياً كلمات (همجي وقاسٍ ومتوحش) وهذه الصفات التي روَّجت لها الصهيونية عقوداً في الإعلام الغربي استهجنها الأوروبيون أنفسهم، وبدؤوا يعملون لرسم صورة جديدة غير متأثرة بثقافة القرون الوسطى التي روجت للحروب الصليبية. وأوشك المثقفون الأوروبيون أن ينجحوا مع أصدقائهم العرب بتكوين مفاهيم جديدة، عبرت عنها مواقف أوروبية ممتازة في استقبال المهاجرين العرب ومساعدة المسلمين في بناء مراكزهم ومساجدهم ومدارسهم، وبلغت هذه المفاهيم الصحيحة ذروة في مشاريع الشراكة العربية- الأوروبية التي بدأت تتكون عملياً في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ولكن لسوء الحظ جاءت جريمة 11 سبتمبر التي اتهم العرب والمسلمون بالمسؤولية عنها لتقلب المائدة العربية- الأوروبية وتهدم كل ما تم بناؤه من مشاعر الثقة ومفاهيم وأسس التسامح والصداقة الأوروبية- العربية. وكانت الدعوة الأميركية إلى مكافحة الإرهاب قد تحولت دون مبررات منطقية إلى صدام جديد بين الغرب والإسلام، ولم يكن الدافع إلى تطوير المعركة والوصول بها إلى مجابهة الإسلام دافعاً أوروبياً وإنما كان دافعاً إسرائيلياً، وحسبنا أن نتذكر خطة التعامل الصهيونية مع هذه المعركة، وقد عبر عنها كثير من أنصار إسرائيل منهم مثلاً ديفيد هاريس (المدير التنفيذي للجنة اليهودية الأميركية) حين كتب لـ"جيروزاليم بوست" يقول: علينا أن نعمل مع إسرائيل لمقاومة الإسلام. إن ما ينبغي عمله الآن هو قيام أوروبا والعرب بمراجعة لتطور العلاقة بينهما، بهدف التخلص من الآثار السلبية للتاريخ، ولتصحيح سوء الفهم الذي أوشك أن يدمر ما كان متوقعاً أن ينهض عالياً من مشاعر الثقة والتسامح وأسس الشراكة والتعاون. وإذا كان تجاهل ذلك على الصعد السياسية مفهوماً لتحقيق ما تتطلبه الدبلوماسية من إظهار لما هو إيجابي والتعمية على ما هو سلبي فإن الأمر مختلف على الصعد الثقافية والفكرية. وقد كشفت أزمة الرسوم عن تفشي حالة سوء الفهم، كما كشفت بعض ردود الفعل الأوروبية على جرائم إرهابية اتهم بها عرب أو مسلمون قبل أية إدانة قانونية عن استعداد عام لإطلاق أحكام مُسبقة كانت جديرة بالمراجعة والتقويم. لقد زرت أوروبا هذا العام عدة مرات والتقيت مثقفين كباراً وفوجئت بخطورة سوء الفهم عند بعضهم، ورأيت بعضهم الآخر متأثراً بإيديولوجيات تجعل الحروب الصليبية ملهمة إلى الآن. لقد سمعت مثل هذا الخطاب في بعض المحافل الأوروبية وقرأته في مقالات جادة، مما ينبغي أن يدفع العرب والأوروبيين إلى المكاشفة والمصارحة والعمل على إيضاح كثير من الحقائق التي تم تزييفها في الغرب. لقد طغى خطاب الإعلام الصهيوني في أوروبا، مقابل الغياب المُطلق لخطاب الإعلام العربي وغابت مبادرات العرب الثقافية نحو أوروبا عن ساحاتها الإعلامية، كما نجحت الصهيونية في فرض حصار إعلامي على الأوروبيين والأميركان، فباتت عامة شعوب أوروبا والولايات المتحدة ترى منطقتنا بعيون صهيونية. وربما كان تردد قادة أوروبا في اتخاذ مواقف عادلة من الصراع العربي- الإسرائيلي يعود لكون العرب لا يحرصون كثيراً على إقامة المعيار الدبلوماسي المهم (المعاملة بالمثل) وأجد ضرورياً أن يقوم العرب بإشعار أوروبا بأن البلاد العربية مجال حيوي مهم لأوروبا ينبغي ألا تتم التضحية به مقابل تودد أوروبي لإسرائيل على حساب العرب. والعرب لا يطلبون ثمناً من الأوروبيين لإقامة شراكة عملية صادقة سوى أن تقف أوروبا موقفاً عادلاً، وأمام أوروبا اليوم امتحان خطير في جدية رؤيتها لمستقبل علاقاتها مع العرب عبر الموقف الذي ستتخذه والنشاط الذي ستبذله، لجعل المبادرة العربية للسلام قادرة على أن تكون حلاً لصراع طال أمده، ونرجو أن يدرك أصدقاؤنا الأوروبيون أن إخفاق هذه المبادرة سيغلق الأبواب أمام المستقبل.