تحولت حقوق الإنسان في الغرب اليوم إلى إحدى المسلَّمات البدهية التي تعلو فوق باقي القيم والمقولات حتى ولو كانت ترتبط بالأعراف والتقاليد أو بالثقافة السائدة، بعدما أصبحت راسخة في الوعي الجماعي وبات من المستحيل الارتداد عنها أو التشكيك في أسسها. ولعل هذا ما يفسر، ولو في جزء منه على الأقل، ذلك الاهتمام الكبير الذي يبديه الرأي العام الغربي بما قيل إنه يجري في دارفور من انتهاكات لحقوق الإنسان. وبعيداً عن التوظيف السياسي لمسألة حقوق الإنسان والابتزاز الذي تمارسه القوى الكبرى ضد دول العالم باسم تلك الحقوق، فإنه لا مفر من الاعتراف برسوخ قيم حقوق الإنسان في المجتمعات التي أعلت من قيمة الإنسان وكفلت حقوقه كمعطى لصيق بآدميته وليس منة متعالية تتلكأ الأنظمة الشمولية في إقرارها. لكن هذه الحقوق التي يخجل المرء المتحضر اليوم من التشكيك في جدواها، لم يترسخ وجودها إلا في جزء متأخر من التاريخ الإنساني المديد، مما يثير التساؤل: كيف نشأت فكرة حقوق الإنسان وتطورت عبر التاريخ؟ هذا السؤال هو ما تسعى أستاذة التاريخ الأوروبي في جامعة كاليفورنيا الأميركية "لين هانت" إلى الإجابة عنه في كتابها الذي نعرضه هنا وعنوانه "تاريخ نشوء حقوق الإنسان". تبدأ المؤلفة بالتأكيد على أن فكرة حقوق الإنسان "تتطلب ثلاث خصائص أساسية: على الحقوق أن تكون طبيعية (متأصلة في الكائن البشري)، ومتساوية (لا تميز بين الناس) وعالمية (تنطبق على العالم بأسره). وتوضح المؤلفة فكرتها قائلة بأن حقوق الإنسان في نسقها الحالي المتكامل الذي يشمل الخصائص الثلاث السابقة، ترجع في نشأتها الأولى إلى عصر الأنوار الذي ساد أوروبا في القرن الثامن عشر، وتحديداً في الفكر الفرنسي الذي كان سباقاً إلى بلورة تلك الحقوق والتنظير لها. فرغم صدور ميثاق حقوق الإنسان الأول في إنجلترا عام 1689، إلا أن تلك الوثيقة التي استندت إلى القانون والخصوصية الإنجليزيتين، لم تشر إلى المساواة في الحقوق، ولا إلى طابعها العالمي. ولم تتبلور وثيقة جامعة لتلك العناصر، إلا مع "توماس جيفرسون" في الولايات المتحدة حين صاغ إلى جانب الكونجرس عام 1776 وثيقة إعلان حقوق الإنسان، لكن مع ذلك لم تكتمل الفكرة تماماً إلا مع الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن عام 1789 والذي ترك أثراً بالغاً على مجمل الفكر الغربي. وتقر المؤلفة بأنه حتى مع إقرار حقوق الإنسان، فإنها ظلت قاصرة على شريحة معينة من المجتمع وهمشت الفقراء، فضلاً عن العبيد والنساء. وتشرح ذلك بقولها: "علينا ألا ننسى القيود الصارمة التي أحاطت بحقوق الإنسان في القرن الثامن عشر، لذا فالوقوف عند ذلك الحد وتهنئة أنفسنا على ما تحقق من إنجازات، لا يلتقط الصورة الحقيقية". وسرعان ما يبرز السؤال المحيِّر: كيف تطورت فكرة المساواة في مجتمع تربى أفراده على التفرقة وعلى اعتبار العبيد والنساء خارج نطاق البشرية؟ إن الإجابة عن هذا السؤال، تقول المؤلفة، ستساعدنا على فهم فكرة حقوق الإنسان كما نعرفها اليوم. ولأن المؤلفة متخصصة في التاريخ الأوروبي الحديث، فإنها ترجع إلى ذلك التاريخ محاولة التنقيب عن التغييرات التي رافقته وأدت إلى ترسخ فكرة المساواة باعتبارها ضرورية لتطور فكرة حقوق الإنسان ذاتها. وهنا تشير المؤلفة إلى تنامي الشعور بالتعاطف إزاء الآخر لدى الفرد الأوروبي خلال القرن الثامن العشر، والإحساس المتزايد بوجود وحدة إنسانية على المستوى الوجداني تجعل البشر يتشاركون في الأحاسيس ذاتها دون فرق أو تمييز. وهكذا بدأت تتلاشى، بفعل هذا التوحد الوجداني الذي بدأ يعيه الفرد الأوروبي، تلك النظرة الاحتقارية للأفراد والتشكيك في إنسانيتهم. وتورد المؤلفة مثالاً دالاً على مدى احتقار الآخر والاستخفاف بآدميته التي كانت سائدة في أوروبا في وقت من الأوقات، إذ لم تكن تتورع السيدة النبيلة عن خلع ملابسها أمام خدمها من الذكور، ليس لسوء سلوكها، بل لأنها لا تعتبرهم بشراً، فكأنها تتعرى أمام الحيوان الذي لا يعقل. لكن القدرة الجديدة على إبداء التعاطف مع الآخر والمشاركة الوجدانية، جعلت من فكرة المساواة في حقوق الإنسان أمراً بديهياً، لأن البشر جميعاً تواقون بطبعهم إلى تحقيق المساواة والكرامة الإنسانية. وتضيف المؤلفة، وهي محقة في ذلك، أن الشعور بالتعاطف ما زال قائماً إلى غاية اليوم، محفزاً الرأي العام في الدول على الدفاع عن ضحايا انتهاكات حقوق الإنسان والوقوف معهم في مصائبهم ضد الظلم والطغيان اللذين يمتهنان كرامتهم الإنسانية. ومهما اختلفت الأسباب والدوافع التي أدت إلى تحول العقليات في المجتمع الأوروبي خلال القرن الثامن عشر، وهي لاشك دوافع عديدة ومتشعبة قد تفوق بكثير ما أوردته المؤلفة، يبقى المؤكد فعلاً وجود ذلك التطور على المستوى الوجداني لدى الفرد الأوروبي والذي دفعه إلى النفور والاشمئزاز من ممارسة التعذيب والوحشية اللتين حفل بهما تاريخه الطويل. وعلى ضوء هذا الفهم تكرس المؤلفة فصلاً كاملاً من الكتاب للحديث عن ممارسة التعذيب، معتبرة أن السبب الرئيسي لتوقف تلك الممارسات لا يكمن في قرار النخبة الحقوقية التي بدأت تتشكل في المجتمعات الأوروبية، بل بسبب التغير الذي طال الذهنيات وانبثاق إطار جديد يعترف فيه بوحدة الوجدان الإنساني الذي يشترك في الإحساس بالألم إزاء الظلم والتعذيب. لكن الانتعاشة التي شهدتها حقوق الإنسان خلال القرن الثامن عشر تعرضت لهزة كبيرة في القرن التاسع عشر عندما أصبحت مقترنة بقوميات بعينها دون الأخرى، وهو ما قاد إلى حربين عالميتين مدمرتين جسدتا فشل ذلك التعاطف الذي تتحدث عنه المؤلفة في التبلور على أرض الواقع. زهير الكساب الكتاب: تاريخ نشوء حقوق الإنسان المؤلفة: لين هانت الناشر: نورتورن كومباني تاريخ النشر: 2007