كتاب "المملكة قادمة: صعود القومية المسيحية" الذي ألفته الصحفية "ميشيل جولدبيرج" هو في الجوهر كتاب تحذيري مضاد لـ"القومية المسيحية"، وللتهديد الذي تمثله لقيم الاستنارة كضمانة أساسية للمحافظة على نموذج الدولة الديمقراطية الحديثة كما نعرفها اليوم. والحقيقة أن "جولدبيرج" قامت بجهد فائق من أجل رصد ملامح هذه الحركة وزعمائها ونماذجها السياسية. وهي تساعد القراء من خلال تحليلاتها وتغطياتها الخبرية المباشرة، على إدراك أن الاستجابة الليبرالية والفهم العقلاني والتعامل المنطقي... أمور مطلوبة بشكل عاجل لمواجهة قوى اللاعقلانية التي تهدد المجتمع الأميركي بالانقسام والتشرذم. وتبين المؤلفة خطورة الدور الذي تلعبه الأسر الأميركية التي تفهم الدين فهماً سطحياً ساذجاً وتقوم بتلقينه لأبنائها بلا روية، معتقدة أن ما تقوله هو الصحيح، مما يؤدي إلى غرس الخرافة في نفوس أجيال وأجيال من الشبيبة الذين يتم اصطيادهم من قبل بعض رجال الدين ممن يحملون أجندات دينية، ومن تشجيع أولئك الشباب على الانخراط في الأنشطة السياسية. ثم تتطرق المؤلفة بعد ذلك إلى الحديث عن المجمعات الكنسية الضخمة التي يتم إنشاؤها عادة في المناطق النائية فيما وراء ضواحي المدن، والتي تتولى عملية التوعية الدينية والسياسية للشباب المؤدلجين لتمد المجتمعات بعد ذلك بملايين الناخبين والنشطاء الذين يمكن استيعابهم بسرعة، وحشدهم حول قضية من القضايا المسيحية وهي كثيرة. وتخصص المؤلفة فصولاً مستقلة لمناقشة ستة مجالات تمكن المتطرفون الدينيون من كسب أراضٍ وتحقيق انتصارات فيها، وهي: تيار مراجعة التاريخ الأميركي، تيار مناهضة حقوق الشواذ، الأنشطة والفعاليات السياسية، الخدمات العامة المبنية على أسس دينية، الامتناع عن شرب الخمور، ونظام المحاكم الأميركي. وتؤكد المؤلفة في هذا السياق أن المكاسب التي حققتها الحركة المسيحية المتطرفة، كانت لها تأثيرات جوهرية في العديد من الطبقات، وهو ما ترجعه إلى الدعم والتعاطف اللذين لقيتهما تلك الحركة على أعلى المستويات في الحكومة الأميركية. والشيء اللافت للنظر أن منهج التحليل المقارن الذي استخدمته المؤلفة في كتابها، يثبت بشكل واضح أن الآراء المسيحية المتطرفة، قد تمكنت من الحصول على دعم دستوري بمرور الوقت، وذلك من خلال إقناع بعض الرؤساء الأميركيين من "الحزب الجمهوري" باعتناق معتقداتها الجديدة التي هي خليط من المسيحية المتطرفة الممتزجة بالنزعة الحربية، حتى حققت نجاحها الكبير مع قدوم إدارة الرئيس جورج بوش الابن، والذي لم يحاول أن يخفي تأثره ببعض رجال الدين الذين يعبرون عن آراء غاية في التطرف على الملأ، كما قام بتعيين بعض الجنرالات الذين اعتنقوا آراء دينية متطرفة مثل الجنرال "ويليام جي. بيوكين" الذي أدلى بعدة تصريحات غاية في الشذوذ والغرابة حول المسيحية وتفوقها على الأديان لأخرى، وهي تصريحات قوبلت وقتها باستهجان كبير خارج أميركا، وداخلها أيضاً. ولا يماري أحد في أن جورج بوش قد نجح في تعزيز تواجد التيار الديني داخل إدارته، وذلك من خلال اختياره لمئات القضاة وكبار المسؤولين من ذوي النزعات الدينية المتعصبة لتعيينهم في وظائف مهمة داخل الحكومة الفيدرالية، مما رسخ من مكانة ووضع الحركات الدينية المتطرفة في الولايات المتحدة من ناحية، وجعلها تمارس نفوذها في الكثير من المسائل والقضايا المهمة. وتلفت المؤلفة النظر في هذا السياق إلى أن نفوذ تلك الجماعات لن ينتهي حتى إذا ما جاءت إلى الحكم في الولايات المتحدة إدارة "ديمقراطية"، بل الأمر المرجح هو أن تستمر في ممارسة نفوذها لسنوات عديدة قادمة. وتحاول المؤلفة مساعدة القراء على إدراك الكيفية التي تتمكن بها الفاشية الدينية من إيجاد أرض خصبة لها بعد أن تنتهي من تهميش التفكير العقلاني الموضوعي، وإزاحته خارج سياق السجال العام، كي يخلو لها الجو بعد ذلك للتركيز على الترويج للأساطير الدينية، وتلقينها للجماهير المسيحية طوعاً أو كرهاً، مما يؤدي في النهاية إلى خلق نوع من التعصب الديني المتسم بالبارانويا، بل ويحرض على ممارسة العنف ضد الآخرين المختلفين، واستئصالهم خصوصاً الذين يعارضون الأجندة المسيحية المتطرفة منهم. وتحاول المؤلفة تفكيك مقولات التفوق الأخلاقي لفئة دون أخرى داخل المجتمع الأميركي، وإثبات خطلها وزيفها. فهي تبين على سبيل المثال أن الولايات الجنوبية التي يطلق عليها "الولايات الحمراء" المعروفة بقوة المشاعر الدينية المسيحية فيها، هي أيضاً الولايات التي توجد فيها أعلى نسبة طلاق، وأقل نسبة تعليم، وأعلى نسبة ديون صافية للحكومة الفيدرالية مقارنة بالولايات الشمالية "الولايات الزرقاء" التي تتسم بتقاليد ليبرالية قوية، وتخفت فيها حدة المشاعر الدينية. وتذهب المؤلفة إلى القول بأن مشاهداتها العملية على أرض الواقع، قد بيَّنت لها بما لا يدع مجالاً للشك، أن كافة الدعاوى حول الأخلاق المسيحية القويمة والهداية التوراتية، والفردانية الأميركية... لا تزيد عن كونها مجرد بلاغيات فارغة من أي محتوى، وأن تلك المعتقدات المفهومة بصورة غير صحيحة، هي التي تنتج إجابات تبسيطية ساذجة عن أسئلة بالغة التعقيد، تتعلق بالأحوال الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وعلى رغم أن المؤلفة لا تقترح إجابات محددة لتلك الأسئلة الأساسية (على اعتبار أن ذلك ليس من اختصاص كتابها)، فإن النداء الذي توجهه لليبراليين للنهوض والوقوف صفاً واحداً دفاعاً عن العدالة وعن العقل والمنطق والمساواة، هو نداء ليس كافياً في حد ذاته لأن المطلوب هو شيء أكثر من ذلك بكثير، وهو قيام حكومات مدنية حرة ومستنيرة تعمل من أجل حل العديد من المشكلات التي ابتليت بها الولايات المتحدة وكثير من المجتمعات المسيحية بسبب صعود تيار التطرف الديني فيها. سعيد كامل الكتاب: المملكة قادمة: صعود القومية المسيحية المؤلفة: ميشيل جولدبيرج الناشر: دبليو. دبليو. نورتون تاريخ النشر: 2007