قبيل أن أغادر موسكو بعد أربع سنوات من عملي كمراسل في روسيا، حظيت بشرف الاستقبال من قبل مسؤول كبير في "الكريملين". وبينما نحن نتحدث حول "فلاديمير بوتين" وعلاقته بجورج بوش، شبَّه هذا المسؤول الروسي فريق بوش بـ"البولشفيين"، ولفت ضاحكاً إلى السرية التي بات يعمل بها البيت الأبيض قائلاً: "لقد تبنوا بعض التقنيات التي نعتمدها مع الصحافة". والحقيقة أنه خلال معظم السنوات الست المنصرمة، أُرغم الصحفيون الذي يغطون أخبار البيت الأبيض على إجادة فن "الكريملينولوجيا"؛ فقد نجح فريق بوش المعروف بانضباطه وحرصه على عدم تسريب ما يجري في الكواليس في إبقاء المعلومات بعيداً عن أنظار الجمهور والصحافة. ونتيجة لذلك، لم يبق أمام الصحافيين، الذين حُرموا من كل المعلومات حول كيفية سير المؤسسة سوى استقراء ما يجري في الواقع. بيد أن أمراً مفاجئاً حدث خلال الأشهر القليلة الماضية؛ حيث ظهرت على ستار السرية المحيط بالإدارة شروخٌ وتصدعات، وبدأت المعلومات حول الأعمال الداخلية لأكثر الإدارات الأميركية انضباطاً تتسرب إلى الرأي العام. فظهر خبر اعتزام بوش تعديل تشكيلة فريقه المكلف بالعراق في الصحف قبل أن يعلن عن ذلك رسمياً. كما ظهر خبر صراعه مع قيادة الأركان المشتركة بخصوص إرسال المزيد من القوات إلى العراق على الصفحات الأولى للصحف، يومياً وعلى مدى عدة أسابيع. وعلاوة على ذلك، نشر عدد من الصحف مراسلات سرية لمستشاره في الأمن القومي ووزيره القديم في الدفاع؛ وسرب مسؤولون لم يفصَح عن أسمائهم معلومات تفيد بأن وزيره الجديد في الدفاع حاول سدى إغلاق معتقل "جوانتانامو". وفي هذا الإطار، يقول "مارلن فيتزوُتار"، الذي يعد الشخص الوحيد الذي شغل منصب المتحدث باسم البيت الأبيض مع رئيسين :رونالد ريجان وجورج بوش الأب: "تحدث دائماً تسربات كثيرة عندما يتعلق الأمر بآخر مراحل الولاية الرئاسية وأحد المواضيع المثيرة للجدل"، مضيفاً "ففي ظل استمرار الحرب في العراق و خلال السنتين الأخيرتين في منصب الرئاسة، أعتقد أنه من الطبيعي أن نشاهد زيادة في المواد المتسربة. وعلينا أن نعلم أن الدافع الرئيسي إلى معظم التسريبات يكمن في رغبة الناس في التأثير على السياسة أو الرئيس عندما لا يكونون قادرين على فعل ذلك في حالات أخرى". والحال أن ذلك لا يعني أن البيت الأبيض تحول فجأة إلى غربال. فالأمر لا يتعلق بأكثر المؤسسات شفافية، بل إن الحصول على المعلومات قد يُفقد الإنسان صوابه أحياناً. فقبل شهرين فقط رفض البيت الأبيض الكشف عن البرامج التلفزيونية التي يشاهدها الرئيس. ويبدو أن العديد من المعلومات التي تسربت مؤخراً صدرت عن وكالات أخرى داخل الإدارة؛ وهو ما يؤشر إلى أن البيت الأبيض لم يعد قادراً على فرض رغبته على جميع زوايا الحكومة بنفس الفعالية التي كان قادراً عليها من قبل. وفي هذا السياق، يقول "جو لوكهارت"، الذي شغل منصب المتحدث باسم الرئيس بيل كلينتون: "إن الخوف هو الذي يفرض الانضباط، والحال أنه ليس ثمة الكثير من الأشخاص الذين يخافون من الرئيس حالياً، سياسياً، أقصد"، مضيفاً "فقيادة الأركان، والزعامة الجمهورية، والمساعدون السابقون لا يخشون عقاباً سياسياً من البيت الأبيض اليوم". وبالفعل، فاللافت أن أشد الانتقادات التي توجه إلى البيت الأبيض هذه الأيام تصدر عن أشخاص كانوا ذات مرة داخل البيت الأبيض، ولكنهم لم يعودوا يجدون حرجاً في التحدث. وفي هذا السياق، أدلى "ماثيو داود"، الذي كان يُعد كبير مخططي حملة الرئيس الانتخابية الثانية عام 2004، بتصريحات لصحيفة "نيويورك تايمز" هذا الشهر مفادها إنه "يشعر بالإحباط " بسبب القرارات التي اتخذها الرئيس، وبأن السيناتور جون كيري محق بخصوص موضوع العراق. ومن جانبه، اشتكى "جون بولتون"، الذي غادر منصب سفير واشنطن في الأمم المتحدة، من أن الإدارة لا تتبنى الصرامة اللازمة في موضوعي إيران وكوريا الشمالية. أما "كينيث أدلمان"، الذي كان مقرباً من نائب الرئيس ديك تشيني في وقت من الأوقات وعمل مستشاراً لوزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد، فلم يتردد في التنديد بأصدقائه القدامى واتهامهم بتسيير أسوء إدارة في تاريخ الولايات المتحدة . الواقع أن بعضاً مما يحدث اليوم كان سائداً في الإدارات السابقة؛ فخلال فترة كلينتون الرئاسية– وخلال فترات أسلافه الرئاسية، حسبما قيل لي- كان من الممكن في حدود المعقول الحصول على معلومات حول طريقة اشتغال البيت الأبيض. فكان الصحافيون الذين لديهم سؤال حول السياسة الاقتصادية يستطيعون الاتصال بالمستشار الاقتصادي للرئيس، وأولئك الذين لديهم سؤال حول الرعاية الصحية يستطيعون الاتصال بمستشاره في الشؤون الداخلية. أما اليوم، فلا أحد من هؤلاء المسؤولين يرد على مكالمات الصحافيين. وقد جرت العادة في الماضي أن تُعرف أسماء الأشخاص الذين يتم بحث ترشحاتهم لعضوية المحكمة العليا أو شغل المناصب العليا في الإدارة قبل الإعلان الرسمي عنها بوقت طويل. كما كانت الخيارات بخصوص سياسة الرفاه الاجتماعي أو المبادرات الدبلوماسية تقَُيم في وسائل الإعلام قبل أن ينتهي بها المطاف على مكتب الرئيس. صحيح أن ذلك كان يُظهر أحيانا للرأي العام الفوضى التي تتخبط فيها إدارة كلينتون ، غير أنه كان في أحيان كثيرة يساهم في عرض الخلاف على الملأ وإضفاء مزيد من المشروعية على السجال. والحال أن "بوش" تبنى وجهة نظر مغايرة، حيث بدا عازما حين قدم إلى البيت الأبيض على القيام بالأمور على نحو مختلف. فالتسريبات، في رأيه، مؤشر على أن البيت الأبيض يفتقر إلى التنظيم؛ إذ يجب ألا يتسرب شيء ما لم يُرد له أن يتسرب. كما أن قدرته على المحافظة على الالتزام بهذا الأمر على مدى سنوات عدة مؤشر على التضامن غير العادي الذي يسود بين أعضاء فريقه. وفي هذا السياق، يقول "ترانت دافي"، المتحدث السابق باسم بوش: "إن السبب الرئيسي لقدرة البيت الأبيض في عهد بوش على الحفاظ على هذا المستوى من الانضباط يكمن إلى حد كبير في التنسيق الكبير بينه ومكتب نائب الرئيس، خلافاً للبيت الأبيض في عهد الرئيس كلينتون، الذي كان على العكس من ذلك تماماً". ــــــــــــــــــــــــــ مراسل صحيفة "واشنطن بوست" في البيت الأبيض ــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"