أكاد أجزم أنه ما من بين المخلوقات جميعاً، ما يفوق جمالاً شروق الشمس في سهوب "ماساي مارا" الخضراء، وهي امتداد لمحمية طبيعية كينية ساحرة، شكلت خلفية لفيلم "غادروا إفريقيا". وبزوغ الشمس هنا يشبه إلى حد كبير، رفع الستار عن أحد المشاهد البديعة لدرر وكنوز الطبيعة الأم، أي عن أغنى ما ادخرته نظمها البيئية. وعلى امتداد اليوم كله، فما أكثر ما تحييك فحول الأفيال الراكضة وراء مرحان الأبقار، بينما تجلجل في أذنيك وروحك زقزقة عصافير "الباوباو" المدارية. وربما ترتعد فرائصك لرؤية أسد يلتهم خنزيراً برياً صغيراً بكامله وهو يصرخ ويستغيث بين فكيه بلا طائل. ولكن لا عليك فتلك هي الطبيعة فخذها كما تتبدى لك. وربما يسري عنك منظر طيور "الرهو" البيضاء الصغيرة التي تعشق امتطاء ظهور البقر الوحشي، بينما تندهش أيما دهشة لرؤية الطريقة التي تعين بها الظباء "مستطلعاً" لها يتخذ مكانه في أعلى التل أو الجبل، ليكشف المكان كله على امتداد البصر، ويرى ما إذا كان هناك خطر على قطيع الظباء، حتى ينبهها لتفر مولية الأدبار، وكيف يتبادل القطيع هذا المستطلع حتى يأكل نصيبه من الحشائش الطرية الخضراء. فأي توازن ذاتي دقيق هذا الذي يحفظه النظام البيئي! لكن وخلف ذلك الستار، تجري على قدم وساق عوامل الهدم والتخريب وقطع الأشجار والانتهاك الصارخ للنظم البيئية، مضافاً إليها خطر التغير المناخي. وهذه جميعها تمثل مهدداً ثلاثي الأبعاد لمشهدية "مارا"، وهو ما يثير قلق الكينيين وغيرهم من المهتمين بأمر التنوع البيولوجي. ذلك أن الطقس قد تغير خلال السنوات العشر الماضية، حسب الشرح الذي قدمه لنا الباحث البيولوجي "دانيل ميمومسي" من قبائل الماساي. ووصف الباحث حالة الطقس في المنطقة بأنها أصبحت فجأة يصعب التنبؤ بها. فعلى سبيل المثال كان شهر أبريل شهراً ماطراً في العادة، من كل عام، حيث تهطل الأمطار في كل ظهيرة وليلة من لياليه. أما اليوم فقد بتنا نتوقع هطول المطر... ولكن لا مطر ولا بروق في السماء. وما لم تهطل الأمطار بكثافة خلال الثلثين الأخيرين المتبقيين من الشهر الحالي، فسوف يواجه الفلاحون الذين زرعوا حقولهم للتو، مشكلة كبيرة مع محصول العام الحالي. وبالنسبة لكل من عرف منطقة "مارار" هذه، فإن هذا الشهر بالذات يجب أن يكون من أكثر شهور العام غزارة بالأمطار. لكن وبدلاً من ذلك، فقد انهمرت الأمطار في شهري يناير وفبراير، حيث لا يزرع المزارعون! وعلى الرغم من أن قياس التغير المناخي يجب ألا يبنى على أية حال، اعتماداً على ملاحظة نظام بيئي واحد، أو قراءة فترة قصيرة من الوقت، إلا أن "أندرو سي. ريفكين" محرر الشؤون البيئية في "التايمز" لاحظ أن العلماء قد توصلوا إلى حقيقة انحسار معدل الأمطار في المناطق الاستوائية، في مقابل انتقال كثافتها إلى المناطق القطبية. وبالمثل فقد تلاحظ حدوث تغير كبير في نمط ومعدلات هطول الأمطار في كينيا خلال الثلاثين عاماً الماضية، وأن التكهن بها غدا أكثر صعوبة من ذي قبل، على حد قول "يوليوس كيبنجيتش" مدير "خدمات الطبيعة البرية الكينية" وهي الهيئة التي تتولى إدارة محمية "فلك نوح" للكائنات المهددة بالانقراض. وفي رأي "كيبنجيتش" أنه وفيما لو تسبب التغير المناخي بالمزيد من تعاقب موجات الجفاف والفيضانات، وأحدث اضطراباً في نمط هجرة الحيوانات، فإن ذلك لا يعني شيئاً سوى التهديد بفناء أندر الكائنات الحية التي تعيش في منطقة "مارا" بأسرها. وفي تلك الملاحظة إشارة إلى أسد مارا، أو "ملك الغابة" الكيني. وفي ذلك تهديد ما بعده للاقتصاد الوطني، الذي يعتمد بدرجة كبيرة على ثراء الطبيعة البرية. "لذلك وما أن يلتقي كل فرد منا بأحد هذه الحيوانات البرية، حتى عليه أن ينحني لها احتراماً ويجزل لها من كلمات الشكر والثناء" كما يقول "كيبنجيتش". وعلى كينيا أيضاً أن تبدي قلقاً إزاء ممارسات إزالة الغابات وانتهاك الحياة البرية، على الرغم من أن معدلات الانتهاك قد انخفضت كثيراً بسبب تحسن السيطرة عليه. يذكر أن الغابات الكينية قد انخفضت من معدل 10 في المئة من إجمالي المساحة البرية، لتصبح الآن 8 في المئة قياساًِ إلى ما كانت عليه في عام 1963، وهو التاريخ الذي نالت فيه كينيا استقلالها الوطني. وخلال المدة نفسها، انخفض تعداد الأفيال من 170 ألف فيل إلى 30 ألفاً، بينما تضاءلت حيوانات وحيد القرن خلال المدة نفسها، من 20 ألفاً إلى نحو 500 منها فحسب. لذلك فإن من يرى من المواطنين وحيد القرن اليوم، فهو لا شك محظوظ جداً. وربما يأتي اليوم الذي لا يتمتع فيه أولادنا وأحفاد أحفادنا برؤية أي منها على الإطلاق، كما يقول "كيبنجيتش". وبالطبع فإن من شأن التغير المناخي أن يزيد هذا الحال سوءًا على ما هو عليه، وفقاً للتقرير العلمي الدولي الصادر مؤخراً بهذا الشأن، مع العلم أن الدول النامية ليست هي المسؤولة عن انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري وغيرها من الغازات السامة الأخرى التي تؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة على سطح الأرض. ولذلك فليس غريباً أن وجه الرئيس الأوغندي "يوري موسيفيني" حديثه إلى القمة الأفريقية التي عقدت مؤخراً في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا قائلاً:"إن لنا رسالة واضحة لا بد من توجيهها إلى الدول الصناعية الكبرى: إنكم تعتدون علينا برفعكم لدرجات حرارة المناخ العالمي". وما أوضح مظاهر هذا الاعتداء في مظاهر الحياة البرية الكينية، لما يرى فيه من تناقص ملحوظ في عدد الكائنات البرية، ومن تعاقب لموجات الجفاف فيها. ــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"