الانتخابات التي جرت مؤخراً في مقاطعة "كوبيك" الكندية ذات الأغلبية الناطقة بالفرنسية، كانت من عدة أوجه مدعاة لاهتمام قومي كندي، تجاوز حدود المقاطعة إلى كافة المقاطعات الأخرى. "كوبيك" كانت وستبقى إلى زمن قادم البؤرة الساخنة، التي تحدد مدى نجاح أو فشل الدولة الفيدرالية الكندية، فقد ظلت على مدى العقود الأربعة المنصرمة تهدد الوحدة الكندية برفعها كل أربعة أعوام تقريباً، شعار الاستفتاء لتقرير مصيرها لتصبح دولة مستقلة عن كندا. وقد أجري بالفعل الاستفتاء مرتين، وفاز دعاة الاتحاد بأغلبية بسيطة في كلا المرتين. ولم تخفف من ضغوط الانفصاليين الكنديين كل التنازلات التي قدمتها الحكومات الفيدرالية الكندية، من اعتماد اللغة الفرنسية لغة رسمية للدولة (وبذلك أصبحت كندا أول دولة لها لغتان رسميتان... الإنجليزية والفرنسية)، أو انفاق مليارات الدولارات على لمقاطعة لدعم الخدمات الأساسية فيها، حتى أصبح المواطن الكندي العادي يحتج على أن "كوبيك" تبتز بقية كندا لتحصل على نصيب أكثر من حقها المشروع في الثروة القومية. الانتخابات النيابية للجمعية الوطنية (البرلمان الإقليمي) كانت موضوع استفتاء ثالث حول تقرير المصير- (الانفصال) هو المحور الذي شكل الخلفية الأساسية للحملة الانتخابية الساخنة. لقد ظل حزبان تاريخيان يسيطران على الساحة السياسية في "كوبيك": حزب "الأحرار" الفيدرالي وحزب "كوبيك" الانفصالي. "الأحرار" تاريخياً هو الحزب الذي، بقيادة زعيمه "بيير ترودو" (من كوبيك) أعاد لكندا دستورها من لندن، ووضع ميثاق الحقوق والحريات الكندي، وحزب "كوبيك" هو حزب الانفصاليين دعاة السيادة والاستقلال لـ"أمة كوبيك"، وهكذا كانت دورات الحكم النيابي تجرى بين الحزبين الكبيرين، وعلى مدى مئة وعشرين عاماً لم تشهد "كوبيك" حكومة أو معارضة رسمية سوى الحزبين الكبيرين! هذه الانتخابات الأخيرة، أسفرت عن واقع جديد في الساحة السياسية في "كوبيك"، سيمتد أثره سلباً أو إيجاباً على الساحة السياسية الكندية عامة، فلأول مرة، ومنذ أكثر من مئة عام، يخترق حزب ثالث حصون الحزبين الكبيرين ويكسر احتكارهما للحكم والمعارضة، ويحتل المرتبة الثانية في "الجمعية الوطنية"، ليصبح حزب "العمل" الديمقراطي المعارضة الرسمية. فقد أسفرت الانتخابات الأخيرة عن فوز "الأحرار" بأغلبية بسيطة (48 مقعداً)، وحقق حزب "العمل" الديمقراطي نصراً انتخابياً كبيراً، فارتفعت أسهمه من خمسة مقاعد في الجمعية الوطنية إلى 41 مقعداً ليصبح حزب المعارضة الرسمية، وتراجعت بل وسقطت كفة حزب "كوبيك" الانفصالي ليحصل على 36 مقعداً، وتلك أكبر هزيمة انتخابية سُجلت في تاريخ الحزب الانفصالي العتيد. وحزب "العمل" الديمقراطي حقق هذا الانتصار المذهل حتى لقيادته- التي لم تتصور أن الحزب سيحصل على هذا الفوز الكبير على الأقل في هذه الدورة الانتخابية- هو حزب حديث العمر وزعيمه الشاب قليل الخبرة والتجربة السياسية (كان في زمن الدراسة رئيساً لمنظمة شباب حزب الأحرار)، وهو حزب "يميني" في سياسته الاجتماعية، وليس بين مرشحيه وقادته نجوم سياسية لامعة (عدا الرئيس طبعاً). فكيف تحقق لحزب كهذا أن يقلب موازين القوى واللعبة السياسية التاريخية ليصبح هو المتحكم الفعلي اليوم في مصير حكومة الأقلية (الأحرار) ورئيسها السياسي العتيق؟ الإجابة تكمن في (الشعار الجامع) الذي أطلقه رئيس الحزب وبنى على أساسه كل حملته الانتخابية " التغيير".وكان يقول بلغة بسيطة إن الناس قد ملوا وضاقوا من سيطرة الأحرار الفيدراليين والإنفصاليين على السلطة السياسية في "كوبيك". وإنه بين اتحادية "الأحرار" المفرطة وتشدد حزب "كوبيك" الانفصالي المتزمت جداً، لابد من طريق ثالث يحقق لـ"شعب كوبيك" ذاتيته ومستقبله الأفضل في إطار الاتحاد الكندي المؤسس على الدستور وميثاق الحقوق والحريات. هذا الطريق الثالث الذي يحقق لشعب "كوبيك" ذاتيته ووضعه داخل الاتحاد الكندي، وهو الذي سيسحب البساط من تحت أقدام الانفصاليين "الكوبيكيين"، ويحقق التغيير الذي ينشده الشعب. والدرس الأول الذي خرج به الناس من انتخابات "كوبيك" الأخيرة، أن دعاوى الانفصال وتقييم الأوطان، لم تعد تجد استجابة حتى من "الجمهور"، الذي باسمه يتحدث الانفصاليون. ففي ظل الوحدة أو الاتحاد العادل والديمقراطي يمكن أن تتحقق كل لكل الأطراف المتحدة مصالحها الذاتية، وأن تتشارك وتشترك في تحقيق المصلحة القومية المشتركة للوطن كله. والدرس الثاني الذي خرج به الناس، أن الدعوة للتغيير أصبحت وستصبح أكثر "مطلباً عالمياً" يطمح إليه شباب القرن الحادي والعشرين، في كل مكان، وما لم يجد الشباب مكانتهم وتتحقق طموحاتهم من داخل المؤسسة السياسية التاريخية (التقليدية)، سيجنحون إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار، لا فرق لديهم في ذلك.