الصراع المحتدم بين نظام الحكم والمعارضة في مصر حول التعديلات الدستورية التي تم إقرارها في آخر الشهر الماضي ليس الأول من نوعه، ولن يكون الأخير في غياب توافق وطني على قواعد الممارسة الديمقراطية، بل على مقومات هذه الديمقراطية نفسها. وليست هذه معضلة خاصة بمصر وحدها، ولا هي محصورة في العالم العربي والإسلامي أو القسم الأعظم منهما فقط. فهي معضلة قائمة في أكثر من نصف دول العالم. بعض هذه الدول لا يعرف من الديمقراطية إلا اسمها وبعض طقوسها الشكلية، وبعضها الآخر مضى في طريق التطور الديمقراطي بمقدار وقطع خطوات متعثرة أو قابلة للتعثر أو مرشحة للانتكاس. والمفارقة، هنا، أن كلمة الديمقراطية التي يتم ترديدها على نحو يستحيل إحصاؤه كل يوم في أرجاء المعمورة مازال الغموض يكتنفها والخلط يشيع على نطاق واسع بينها وبين مفاهيم أخرى. ومع كثرة العوامل التي يمكن أن تفسر ذلك, ربما نجد جذر المشكلة في افتراض شائع مؤداه أن للنظام الديمقراطي غايات تعبر في مجملها عن حلم الإنسان في "مجتمع مثالي". ومن شأن هذا الافتراض أن يأخذنا بعيداً عن أخص خصائص هذا النظام، وهو أنه ترتيب مؤسسي لا يلتزم مسبقاً بإيجاد مجتمع ذي سمات معينة. فالديمقراطية, في جوهرها، عملية للحكم تستهدف تنظيم ممارسة السلطة السياسية في إطار عقد اجتماعي ضمني بين مختلف فئات المجتمع. هي إذن عملية تنظيمية بالأساس لا ترتبط بمنظومة أيديولوجية، وإنما بمجموعة من القيم والأعراف الإنسانية العامة مثل التسامح والتعايش واحترام الآخر والحوار والحل السلمي للخلافات. ويتمثل محورها في ضمان حقوق المواطنين, من حيث هم مواطنون لا رعايا, إزاء السلطة، وليس السعي إلى غاية أو مثل أعلى. ورغم ذلك، فكثيراً ما يُنظر للديمقراطية على أنها نظام ملتزم بتحقيق مشاركة أعلى، أو تمثيل سياسي أوفر، أو مساواة أفضل، أو عدالة أكثر. لكن هذه النظرة لا تنطوي فقط على مفهوم أوسع نطاقاً للديمقراطية، كما يجادل بعض أصحابها، وإنما تتضمن خلطاً لمفهوم الديمقراطية بمفاهيم أخرى. صحيح أن تعظيم التمثيل السياسي ورفع معدلات المشاركة يدعمان النظام الديمقراطي ويساعدان على استقراره، لكن وجوده ليس مشروطاً بهما. فعلى سبيل المثال يختلف معدل المشاركة السياسية من دولة ديمقراطية لأخرى, بل وفي الدولة نفسها من وقت لآخر. فالمهم هو أن تتوفر إمكانات وقنوات المشاركة لكل من يريدها ويسعى إليها دون قيود تشريعية أو إدارية أو أمنية. كما أن المجتمع الأكثر مساواة أو الأوفر عدالة مرغوب بالفعل، لكنه ليس بالضرورة أكثر ديمقراطية. من الممكن لنظام شمولي أن يوفر، بشكل استثنائي في لحظة معينة، فرصة لتوزيع أكثر عدالة للدخل مثلاً. لكنه يظل نظاماً غير ديمقراطي، لأنه لا يسمح لمعارضيه بالوجود والعمل، ولأن الحكومة فيه غير قابلة للتغيير دورياً عبر انتخابات حُرة, ولا معرضة لمساءلة ورقابة جديتين. كذلك فإن معدل التمثيل السياسي ارتفاعاً وانخفاضاً لا يؤثر في اتجاه واحد بالضرورة على عملية صنع القرار. والمستقر في التقاليد الديمقراطية أن الحائز على الأغلبية مفوض باتخاذ القرار، لكن في إطار ثوابت يتم التراضي عليها. فليس من حق السلطة أن تفعل أي شيء تريده لمجرد أنها تولت الحكم لحصولها على أغلبية في لحظة معينة. فإلى جانب الحد الزمني للتفويض حتى موعد الانتخابات التالية، تظل السلطة مقيدة بالتراضي العام على مقومات الدولة والمجتمع وقواعد اللعبة، والتي لا يمكن لأي طرف تغييرها بإرادة منفردة وفقاً لمرجعيته الخاصة مهما حصل على أغلبية. وبدون التراضي العام، تتحول الدولة إلى حقل تجارب لمرجعيات مغلقة متناقضة، وتصبح السلطة غنيمة يستخدمها صاحب الأغلبية في استباحة خصومه، وتغدو الساحة السياسية ميداناً للمبارزة والاقتتال بدلاً من التنافس السلمي. ولذلك لا تعاني الديمقراطية من تناقض بين الاتفاق العام والصراع، وإنما تقدم الحل الوحيد الممكن له عبر إدارة الصراع سلمياً في إطار الثوابت المتفق عليها من خلال التوافق العام. وعندما ظهرت صعوبات في هذا المجال، في الدول المنقسمة إثنياً (عرقياً أو دينياً أو طائفياً أو لغوياً)، دفعت إلى تطور نمط الديمقراطية التوافقية Consociational، حيث يقوم التراضي العام على ترتيبات وآليات تتيح مشاركة ممثلي الجماعات الإثنية في السلطة، خارج نطاق قاعدة الأغلبية التقليدية. وتشمل هذه الترتيبات تكوين ائتلافات حكومية واسعة، أو إنشاء مجلس أعلى ذي صلاحيات استشارية مهمة تمثل فيه مختلف الجماعات ويتم اللجوء إليه حال تفاقم أي خلاف، أو نظام للحصص في مجال التمثيل النيابي، أو درجة عالية من الاستقلالية في إدارة الشؤون الذاتية، أو مزيج من كل هذا أو بعضه. وقد لجأت بلاد عدة في أوروبا إلى هذا النمط في فترات معينة حتى ترسخت تقاليد حماية مصالح الأقليات. ويمكن الإشارة على سبيل المثال أيضاً إلى نمط آخر تطور بهدف إيجاد آلية للحيلولة دون تفاقم الصراع الاجتماعي إلى الحد الذي يضر بالاستقرار الديمقراطي, وهو نمط الديمقراطية الكوربوراتية. ويمثل هذا النمط امتداداً لفكرة المجتمع العضوي المندمج في سياق ديمقراطي، وذلك في صورة نظام لتمثيل المصالح والتوفيق بين القوى الاجتماعية المعبرة عنها، والتي تدخل مع جهاز الدولة في علاقة تنسيق متواصل بشأن صنع وتنفيذ السياسات العامة. وهذان مثالان لأنماط مختلفة للديمقراطية, مما يؤكد حيويتها وقدرتها على تخليق آليات متجددة لحل التناقضات. لكن الانتقاد الذي يأخذ على الديمقراطية أنها قد تكون مصدراً لتناقضات لا يضع مثل هذه الأنماط في الاعتبار، ويتصور أنه لا ديمقراطية إلا وفقا لقاعدة الأغلبية التقليدية. فالنمط الديمقراطي التقليدي يتميز بفاعلية في حل التناقضات في المجتمعات غير المنقسمة اجتماعياً وغير المهددة بتفاوتات حادة, بل وفي هذه المجتمعات نفسها عندما تتوفر تقاليد راسخة لإدارة الصراعات سلمياً لدي الجماعة السياسية. وتنبع هذه التقاليد من اعتبارات أهمها أن أية حكومة تعرف أنها لن تستمر إلى الأبد, وأنها ستتحول للمعارضة بعد فترة تقصر أو تطول. ولذلك فمن مصلحتها الحفاظ على حقوق الأقليات ودورها، لأنه ليست هناك أغلبية دائمة في النظام الديمقراطي. كما أنه كثيراً ما تعبر مواقف المعارضة عن مصالح قطاعات لم تصوت لها في لحظة معينة. ويعني ذلك أنه لا توجد خطوط فاصلة حاسمة بين الأغلبية والأقليات، وإنما خطوط متقاطعة. وفضلاً عن ذلك، تكفل آليات الديمقراطية الرقابة على أي حكم ومساءلته مهما كانت الأغلبية التي يحصل عليها. لكن يظل تعدد أنماط الديمقراطية المعاصرة أهم دليل على قدرتها المتجددة على حل التناقضات. ولا يعني هذا التعدد وجود "ديمقراطيات" مختلفة, وإنما أنماطاً لديمقراطية واحدة تتمايز فيما بينها من حيث التفاصيل لا الجوهر. فهي تتباين من حيث ترتيبات توزيع السلطة ونظم التمثيل النيابي وأشكال النظم الحزبية وأساليب الانتخاب ووسائل تنظيم الحقوق والواجبات, وما إلى ذلك من تفاصيل. إنها ديمقراطية واحدة جوهرها التعدد المفتوح غير المقيد, والتنافس السلمي الحر, والانتخابات الدورية النزيهة, وتداول السلطة, واحترام حقوق الإنسان. وهذه المقومات هي التي تجعل النظام السياسي ديمقراطياً، كونها تتيح احترام حرية الإنسان وحقه الطبيعي في إدارة شؤون بلده بالقدر الذي يريده ويستطيعه، في إطار التراضي العام الذي يشارك في الوصول إليه ويلتزم باحترامه. وهذا التراضي العام هو أكثر ما تحتاج إليه مصر الآن. وما الصراع الذي احتدم منذ أن تصاعد الخلاف على التعديلات الدستورية إلا أحد أعراض المرض الخبيث الذي ينتشر في بلاد عربية وإسلامية وغيرها، وهو غياب التوافق الوطني أو التراضي العام على مقومات العملية الديمقراطية. ولما كان الصدام الذي اشتد بين الدولة وجماعة "الإخوان المسلمين" في الشهور الأخيرة ساهم بقوة في وصول الصراع حول التعديلات الدستورية إلى طريق مسدود, فقد بات واضحاً أنه لا مخرج من هذا الطريق إلا عبر حل معضلة العلاقة بين الدولة والدين. فهذه المعضلة هي المصدر الأهم والأكثر خطراً في اللحظة الراهنة لأزمة التطور الديمقراطي في مصر ليس فقط لأنها تسمم الحياة السياسية، ولكن أيضاً لما يترتب عليها من تعذر التوافق على مفهوم مشترك للديمقراطية يلتزم عليه الجميع ويتفقون بموجبه على مقومات الدولة التي يصح أن توصف بأنها ديمقراطية. وحين يمكن تحقيق ذلك مستقبلاً، سيكتشف الحكام ومعظم المعارضين الذين يتصارعون الآن في مصر أن كلاً منهم كان لديه فهم خاص للديمقراطية لا صلة حقيقية له بها في الأغلب الأعم, وأن اختلاط المفاهيم على هذا النحو أضفى على صراعهم فوضى يشعر بها من يدقق في تفاصيل هذا الصراع.