ليس ذلك العنف العرقي الذي دار على مدى ثماني ساعات في محطة السكك الحديدية الشمالية، الواقعة في منتصف معركة الانتخابات الفرنسية الرئاسية مؤخراً، سوى مؤشر على التقاء الوجوه الأوروبية المتعددة هنا في قلب العاصمة باريس. وفي تلك المحطة تلتقي قاطرات "تاليس" و"يوروستار" السريعة، التي تربط باريس بكل من بروكسل ولندن. وكذلك تلتقي خطوط الطيران القادمة إلى مطاري "شارل ديجول" و"أورلي". كما ترمز هذه المحطة أيضاً إلى الوجه العرقي لفرنسا. فمنها تتجه خطوط السكك الحديدية المؤدية إلى الضواحي التي تتجمع فيها العرقيات العربية -الأفريقية. ولذلك فهي تمثل نقطة التقاء بالنسبة للكثيرين من أفراد هذه المجموعات، خاصة وأن دورها قد تصاعد كثيراً خلال الحملة الانتخابية الرئاسية الجارية الآن، ما أن طرقت هذه الحملة سؤال "الهوية الوطنية"، مع العلم أن هذا السؤال ليس سوى شفرة أو صيغة أخرى للتعبير عن تلك المجموعات العرقية التي إما أنها لا ترغب، أو ليس في وسعها أن تتحول إلى مجموعات "فرنسية" بالمعنى الثقافي للعبارة. على أن هذه القضية، قلما طرقت حتى هذه المرحلة من مراحل الحملة الانتخابية الرئاسية، المتوقع لجولتها الأولى أن تجرى في الثاني والعشرين من أبريل المقبل. غير أن ذلك لا ينفي حقيقة أن القضية نفسها، قد بدأت تثير حواراً فكرياً سياسياً، ينشغل به الرأي العام الفرنسي. وكان ذلك الصمت قد انكسر في الثامن والعشرين من مارس الماضي، عندما قفز مهاجر كونجولي غير شرعي من فوق الحواجز المنظمة لدخول الركاب إلى المحطة. وعندما رفض الشاب دفع أي غرامة على سلوكه ذاك، فقد تم التعامل معه بوحشية حملته على الصراخ بصوت عال، لفت إليه انتباه أعداد كبيرة من المهاجرين السود الذين تصادف وجودهم في المحطة. وقد بدأ هؤلاء بإطلاق الهتافات والشتائم التي وجه معظمها إلى المرشح الرئاسي المحافظ "نيكولا ساركوزي"، وزير الداخلية السابق، الذي اقترح للتو إنشاء وزارة للهجرة والهوية الوطنية. وسرعان ما تحولت الهتافات والشتائم إلى حملة نهب وسلب، تواصلت لعدة ساعات، امتدت من حوالي الرابعة مساء، وحتى الواحدة من صباح اليوم التالي. وعلى الرغم من أن ما حدث لم يرق إلى مستوى مظاهرات المهاجرين التي شهدتها فرنسا في أواخر عام 2005، فإن هناك من المراقبين والمحللين من أطلق عليها تسمية "صرخة مهاجري العولمة في فرنسا". واليوم فقد عادت المجموعات العربية والأفريقية تارة أخرى إلى محطة السكك الحديدية الشمالية تلك. وقال بعضهم في تفسير تلك العودة:"نحن نحب أن نلتقي بأصدقائنا ونشرب القهوة ونستأنس معهم هناك". وحدثني شاب أفريقي مهاجر من ساحل العاج قائلاً: إنني أحب الحضور إلى باريس، لأنها أفضل بكثير من ضواحينا البائسة التي نعيش فيها. وبالطبع فقد جرى ترميم المحطة وصيانة مبانيها، بينما ترك سقفها مفتوحاً على السماء مباشرة. وكذلك جرى تزيين ممراتها بأشجار النخيل، بينما بنيت أرضياتها من الخشب، وأصبحت أشعة الشمس تضيء الدكاكين والمحال التجارية العديدة التي تعرض شتى الأصناف فيها من الزهور والحلويات والمعجنات والفطائر والحقائب اليدوية وأحذية التنس وغيرها من الأحذية الرياضية، وحتى الهواتف النقالة. وفيها تختلط وجوه المارة من كل لون وجنس: مهاجرون عرب وأفارقة، سياح يرتدون ما خف وسهل من الملابس، صبية وصبايا من عشاق الرياضة والموسيقى الحديثة، وشرطة دوريات يرتدون أحذيتهم العسكرية الثقيلة التي تقعقع في أرضيات المحطة، ومارة يستعجلون الخطى، وآخرون يتسكعون من محل لآخر ومن دكان إلى الذي يليه، سواء كان التسكع بهدف الشراء أم لمجرد الفرجة وإمضاء الوقت. وعلى رغم الانطباعات المسالمة البريئة التي يستقيها المرء لدى حديثه لعدد من الشباب الأفارقة الذين يترددون على المحطة على نحو متكرر ودوري، فإن مصادر الشرطة تؤكد من ناحيتها، أن المحطة تجمع بين كونها ملتقى اجتماعياً للشباب، إضافة إلى كونها نقطة تجمع للعديد من عصابات المخدرات والجريمة. ولكن رد شاب مهاجر من شمال إفريقيا على تلك التهمة بقوله: إن ما حدث لصديقنا الأفريقي في ذلك اليوم، ما كان ممكناً حدوثه مطلقاً لشاب أبيض، حتى وإن قفز من فوق الحواجز مثلما فعل ذلك الصديق الكونغولي. ولمحمد هذا صديق كونغولي آخر اسمه "ليونيل يانك" يكاد لا يفترق عنه إطلاقاً في تلك المحطة. وقد أوضح لي "يانك" ما حدث في الثامن والعشرين من مارس الماضي كما يلي: لقد مسنا كثيراً ما حدث في ذلك اليوم، إلا أننا لم نعد أسرى ذلك الغضب حتى الآن. فقد شعرنا بنوع من التضامن والتكاتف فيما بيننا كمهاجرين. وحدثني "يانك" الذي هاجر إلى فرنسا منذ قبل أحد عشر عاماً، عن أنه يؤدي عدداً من الأعمال والحرف الهامشية، لكن رغبته الفعلية هي العمل في "مكتب محترم" على حد وصفه، ومن رأيه أن ذلك لن يحدث له مطلقاً. ومضى "يانك" إلى الإفصاح عن رغبته في أن يكون يوماً مثل رجال الأعمال الذين يعبرون من خلفه وأمامه، دون أن يعيرونه نظرة اهتمام واحدة. وقد لاحظت أن جميع هؤلاء الشباب يحملون الهواتف النقالة ويكثرون من استخدامها. غير أن لشرطة الدوريات في المحطة رأياً آخر هو أن الشباب يستخدمونها لتنبيه بعضهم بعضاً من الخطر، وكذلك لجمع صفوفهم متى ما اقتضت الضرورة، على نحو ما حدث في 28 مارس الماضي. ــــــــــــــــــــــ مراسل صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" في باريس ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"