أربع سنوات مرت على حرب العراق، ونحن نحارب لاستئصال خطر غير موجود، ومع ذلك نحتفظ بتقديرنا لسلطة الكذبة الكبرى وقدرتها على التأثير فينا. فالدارج أن الرأي العام يصدق المزاعم التي يطلقها المسؤولون الرسميون حول القضايا الكبرى، لأنه لا يستطيع أن يتصور بأن قادته يتفوهون بالأكاذيب. غير أن هناك درساً سياسياً آخر لا أعتقد بأنه استقر في أذهاننا بعد، متمثلاً هذه المرة في سلطة "الكذبة الصغرى" وما تحيل إليه من اتهامات صغيرة يتم تلفيقها من الفراغ لتتوالى الأكاذيب تباعاً دون توقف. ويبدو أن الهدف من "الأكاذيب الصغرى" ليس البقاء طويلاً في الساحة بقدر ما هو خلق جو من البلبلة، وتكريس شعور لدى الناس بأن الشخص الذي يواجه تلك الاتهامات لا بد أن يكون قد ارتكب خطأ ما. ولفترة طويلة من الزمن، وتحديداً منذ هجمات 11 سبتمبر وإلى غاية ما تبقى من مصداقية بعدما غمرتها مياه الإعصار في "نيوأورليانز" استطاع بوش اللعب بورقة الأكاذيب الكبرى. فعلى سبيل المثال، لم يخطر على بال معظم الناس أن الرئيس الأميركي سيدّعي دون دليل قاطع وجود صلات بين صدام حسين وتنظيم "القاعدة". ولم يدر في خلد أغلب الناس أن بوش سيفوز في انتخابات 2004 لأنهم لم يصدقوا أن الرئيس سيستمر في التلاعب بهم مستغلاً قضايا الأمن القومي. لكن وبالرجوع قليلاً إلى ما وراء 11 سبتمبر سنجد أن الآلة "اليمينية" في الولايات المتحدة اعتمدت بالأساس على "الأكاذيب الصغرى"، ويبدو أنها تحاول اليوم العودة إلى جذورها الأولى. فقد كانت سنوات الرئيس كلينتون استعراضاً للفضائح المزيفة كان آخرها اتهام موظفي كلينتون بتخريب البيت الأبيض قبل مغادرته. وبالطبع حظيت جميع الفضائح الوهمية بالتغطية الإعلامية وظهرت على شاشات التلفزيون، وتداولتها ألسنة المحللين والمراقبين، لكنه نادراً ما يتم التطرق إليها عندما يُكتشف زيفها وبعدها عن الحقيقة. والواقع أن الغرض الرئيسي من وراء ذلك هو إظهار إدارة كلينتون التي كانت أكثر صدقاً، وأفضل حالاً من خليفتها في البيت الأبيض على أنها غارقة في بحر من الفضائح. وحتى مع أجواء 11 سبتمبر لم تختفِ "الأكاذيب الصغرى" تماماً، حيث كان يتوقع من المدعين العامين الموالين لبوش أن يرسخوا تلك الفضائح ويشجعوا على انتشارها. وهكذا فقد تمت إقالة المدعي العام "ديفيد إيجليسياس" من "نيومكسيكو" عندما رفض البحث في تهم لتزوير الانتخابات اعتبر بأنها غير قائمة على أدلة دامغة. واليوم هناك أقوال عديدة تحوم حول قضية "ويسكونسين" عندما قام مدع عام عينه بوش بمقاضاة المسؤول عن المشتريات في الولاية بسبب تهم أثبتت محكمة مؤخراً، بعد 26 دقيقة فقط من الاستماع للشهود، أنها غير حقيقية. لكن في ذلك الوقت أدت التهم الكاذبة الدور المنوط بها، حيث قضى المسؤول في الولاية أربعة أشهر ظلماً وراء القضبان. وقد تم استغلال تلك الواقعة بأبشع صورة لإلصاق تهم الفساد بإدارة الحاكم "الديمقراطي" للولاية. ولعل هذا السياق هو ما يفسر الاتهامات "الجمهورية" الموجهة ضد "نانسي بيلوسي". فقد انصب الاتهام الأول على السلوك المفعم بالتبذير لرئيسة الكونجرس الأميركي، التي قيل إنها طلبت طائرة فخمة للعودة إلى كاليفورنيا، وندد أحد القادة "الجمهوريين" بسلوك "بيلوسي معتبراً أنه "تبذير متغطرس". وعندما تبين لاحقاً بأن المسألة كلها من وحي الخيال، ولا أساس لها من الصحة اعترف القائد "الجمهوري" بأنه لم يكن يتوفر على أي دليل. أما الاتهام الثاني، فجاء على خلفية الزيارة التي قامت بها "نانسي بيلوسي" إلى سوريا، ما جعل نائب الرئيس ديك تشيني يستنكرها على أنها "سلوك سيئ"، متناسياً زيارة مشابهة قام بها إلى سوريا ثلاثة نواب "جمهوريين" في الكونجرس، وزيارة أخرى لـ"نيت جينجريتش" قام بها إلى الصين عندما كان رئيساً للكونجرس. ورغم أن "بيلوسي" اكتفت باعتبار الضجة التي أثارها "الجمهوريون" مجرد "صراخ"، فإن المسألة تكتسي أهمية أكبر من ذلك. فردة الفعل الهستيرية التي أثارها "الجمهوريون" على زيارتها إلى سوريا تندرج في سياق استراتيجية سياسية تتواطأ على صياغتها والترويج لها وسائل الإعلام بما تمنحه للأكاذيب الصغرى من فرصة للانتعاش. فقناة مثل "فوكس نيوز"، التي تعتبر في الواقع منظمة حزبية في كل شيء عدا اسمها، تلعب دوراً حاسماً في استراتيجية الترويج للأكاذيب الصغرى. وهذا ما يفسر امتناع السياسيين "الديمقراطيين" عن المشاركة في البرامج الحوارية التي تنظمها "فوكس نيوز" حتى لا يساعدها ذلك على الظهور بمظهر الحياد وإضفاء الشرعية عليها. والدليل على ذلك أنه حتى بعض الأقلام من داخل وسائل الإعلام مثل "جو كلين" من "نيويورك تايمز" لم يتردد في الإشارة إلى أن التغطية الإعلامية التي حظيت بها زيارة "نانسي بيلوسي" في قناة "سي.إن.إن" كانت "مغرضة"، لا سيما بعدما عرضت القناة تعليقاً على الزيارة حمل عنوان "الحديث مع الإرهابيين". إن لجوء الحزب "الجمهوري" إلى تقنية الأكاذيب الصغرى لتلطيخ سمعة الخصوم السياسيين باختلاق التهم الملفقة إنما يدل على مدى ضعفه السياسي. لكن مع الأسف ستستمر تلك التقنية في الحفاظ على فعاليتها، كما سيواصل المشهد السياسي الأميركي الظهور بوجهه القبيح طالما يوجد إعلاميون يساهمون في رسم ملامحه البذيئة. ـــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"