عاد الرئيس السوري بشار الأسد من قمة الرياض بدون مكسب مهم فيما يتعلق بالأزمة اللبنانية. فالقمة لم تتخذ في الواقع موقفاً متحيزاً لأي من طرفيها: لا أنصار سوريا ولا خصومها. تكفي هذه الحقيقة للتأكيد على أن ما أشيع حول مصالحة سورية- سعودية ليس دقيقاً بالرغم من اللقاء الذي جمع الملك عبدالله والرئيس بشار. ولم يحدث انكسار حقيقي للأزمة المكتومة بين مصر وسوريا لأن الخلاف حول المسألة اللبنانية وبعض المسائل الأخرى لم يُحل. وليس هناك أي دليل على أن الوفاق الثلاثي بين مصر والسعودية وسوريا سيعود مجدداً في الأمد المنظور ليشكل قيادة متماسكة وواقعية للنظام العربي أو ليمنح المنطقة شيئاً من الأمل في استعادة ولو بعض حيويتها وانسجامها المفقود. إن ما يحدث هو العكس إلى حد ما حيث تشيع في الأجواء انطباعات بأن المنطقة العربية تشهد ولادة "تحالف بديل" عكسته اجتماعات الرباعية العربية مع السيدة كوندوليزا رايس في أسوان. أحد أهم التفسيرات للفشل في إعادة الحياة للائتلاف المصري السعودي السوري هو ما أظهره التحالف السوري الإيراني من صلابة وقوة وأهمية للبلدين. ويبدو هذا الصمود بحد ذاته أمراً مثيراً بالنظر إلى التقلب المستمر في التحالفات السياسية داخل المنطقة العربية وافتقارها للصلابة. لماذا إذن صمد التحالف السوري- الإيراني؟ هناك بالطبع تفسيرات شائعة تملأ الأسواق الإعلامية العربية والدولية. ينسب البعض مثلاً قوة العلاقات السورية- الإيرانية للجذور المشتركة بين الطائفتين العلوية التي تحكم سوريا والشيعية التي تحكم إيران. لا يكاد هذا التفسير يصمد أمام المناقشة. صحيح أن النخبة السورية تتحالف مع الشيعة في لبنان ولكنها بالمقابل تدعم بصورة فعالة وإن غير مباشرة المقاومة العسكرية التي تستند أساساً على الطائفة السُّنية وذلك ضد حكومة ذات أغلبية شيعية في العراق. ورغم بعض التقارب الشكلي في التوجهات الإيديولوجية العامة لنخب الحكم في البلدين فإن الأيدولوجيا ككل لا تقدم تفسيراً مهماً لصمود التحالف السوري- الإيراني. ولا تكاد الاستمرارية الشكلية في الطابع "الراديكالي" العام للخطاب السوري تخفي التغير العميق في السياسات. بل يشهد الخطاب الأيديولوجي السوري تغيرات جذرية مع الزمن بينما ظل الخطاب الراديكالي الإيراني شديداً بل إنه تعاظم في الفترة الأخيرة مع تولي أحمدي نجاد رئاسة الدولة. فإذا كان التفسير الطائفي الذي تروجه الأسواق الإعلامية متهافتاً فهل يمكن للتفسير الاقتصادي أن يقنعنا؟ لا أظن. ليست لدينا أرقام عن الدعم الاقتصادي الذي تتلقاه سوريا من إيران. غير أني أشك كثيراً أنه يمكن أن يقترب من الدعم الهائل الذي تلقته سوريا من المملكة السعودية ودول الخليج الأخرى منذ عام 1967 وحتى سنوات قليلة مضت. بل إن الدعم المالي والاقتصادي الخليجي والسعودي بالذات كان له دور كبير في المحافظة على قوة العلاقات السورية- الخليجية رغم التباين العظيم في الأيديولوجيا والتوجهات السياسية لنخب الحكم، بل ورغم التباين الكبير في المصالح السياسية الإقليمية، بل ورغم بعض الأزمات التي هزت مؤقتاً هذه العلاقات وخاصة أثناء الحرب العراقية- الإيرانية 1980-1988. هل يمكن أن تفسر الجغرافيا السياسية قوة وصمود العلاقات السورية- الإيرانية؟ ثمة بعض الأدلة النظرية التي قد تساند هذا التفسير. يقول المثل الصيني إن "جاري خصم لي ولكن جار جاري حليف". وبهذا المعنى فالعداء المتبادل بين الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد والرئيس العراقي الراحل صدام حسين والخصومة الأيديولوجية بين فرعى حزب "البعث" كانا وراء اللقاء أو التحالف السوري- الإيراني. ولاشك أن بعض الدوافع الجغرافية السياسية ساهمت بشدة في الخصومات السورية العراقية. ولم تكن العلاقات بين من يحكم كلاً من سوريا والعراق في أية حقبة من حقب التاريخ الطويل للمنطقة طيبة. واشتعل التنافس بين سوريا والعراق سواء قبل الإسلام أو بعده. ولكن الاعتبارات الجغرافية السياسية لم تكن بالضرورة الفيصل النهائي في تعيين مسار العلاقات بين سوريا وإيران. فالتنافس وصل بدوره إلى مستويات شديدة في فترات تاريخية مختلفة. وعلى أي حال فإن اعتبارات الجغرافيا السياسية لا تفسر تفضيل سوريا لاستمرار التحالف مع إيران ولو على حساب العلاقات الحيوية للغاية مع مصر والسعودية ودول الخليج. بل إن سوريا خاطرت أحياناً بمواقف تحسب ضد إيران ولو نظرياً من أجل استمرار علاقاتها الحيوية مع السعودية ودول الخليج. وعلى سبيل المثال وافقت سوريا على قرارات مؤتمر القمة العربي في عمان عام 1987 وكانت شديدة اللهجة أو إنذارية في مواجهة استمرار الهجوم الإيراني المتواصل ضد الأراضي العراقية منذ عام 1982. ماذا يمكن أن يفسر إذن صمود التحالف السوري- الإيراني؟ يبدو التفسير الصحيح استراتيجياً بحتاً ويخضع لمنظومة الأولويات الاستراتيجية السورية والإيرانية. إن البقاء هو قمة أولويات أية دولة وأي نظام حكم بدون منازع. وقد أثبتت إيران قيمتها العظمى في دعم بقاء النظام والدولة السورية. وبالمقابل فإن المواقف العربية منذ تفجر الأزمة اللبنانية بدت وكأنها تقبل المخاطرة ببقاء النظام السوري وخاصة فيما يتعلق بالتحقيق الدولي حول ملابسات ومسؤوليات اغتيال الرئيس رفيق الحريري وقضية المحكمة ذات الطبيعة الدولية. ولاشك أن هذه القضية أحد الأسباب الأساسية للأزمة اللبنانية السورية والأزمة الداخلية في لبنان وأزمة العلاقات السورية مع كل من مصر والسعودية. ولكن قضية البقاء تبدو أكثر عمقاً واتساعاً من كل هذه الأزمات. فلاشك مطلقاً في أن النظام السوري مستهدف بالإسقاط من جانب إدارة بوش. بل وكان إسقاط النظام السوري أحد الأهداف التالية لهذه الإدارة منذ غزو العراق عام 2002. وتسارعت الرسائل التي تنبئ بنية الإدارة الأميركية في عزل وإسقاط النظام السوري بإصدار "قانون محاسبة سوريا" وحث إسرائيل على توجيه ضربات جوية لسوريا ثم بإصدار "قانون محاسبة سوريا وتحرير لبنان". بل إن فكرة المحاكمة الدولية بدت موجهة للنظام السوري بأكثر كثيراً مما كانت موجَّهة للرئيس بشار بذاته. ويبدو أن الموقف المصري والسعودي صرف اهتمامه لتجنيب الرئيس الأسد احتمال أن يستدعى لهذه المحكمة بدلاً من تجنيب النظام السوري بكاملة احتمالات الإدانة ومن ثم العزل والإسقاط. وبالمقارنة فإن الإيرانيين اتخذوا موقفاً حاسماً ولم يبدوا أي تردد في تعزيز مكانة النظام. ولاشك أن منطق بقاء النظام أهم وأقوى من منطق بقاء الرئيس. وقامت حسابات الرئيس السوري على أسس سليمة من الناحية الفنية. فإن تمت إدانة أو عزل النظام فإن بقاءه في الحكم سيكون معرضاً بالتأكيد للاهتزاز إن لم يكن للنهاية. بل ويمكن القول إن التحالف السوري- الإيراني صمد صموداً خارقاً منذ تأسيس النظام الجمهوري الإسلامي في إيران بسبب التوافق العميق في المصالح الاستراتيجية. فالطرفان مستهدفان من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. والطرفان لهما مصلحة مؤكدة ومشتركة في تعديل موازين القوى الاستراتيجية بمواجهة إسرائيل والولايات المتحدة. والطرفان نجحا إلى حد كبير حتى الآن في ذلك جزئياً بفضل تحالفهما الاستراتيجي في مواجهة الضغوط وأعمال العدوان والتحريض الإسرائيلية والأميركية. ومن هذه الزاوية تملي العقلانية السياسية الثبات على هذا التحالف ولو على حساب تدهور العلاقات وتأزمها بين سوريا وعدد من الدول العربية وعلى رأسها مصر والسعودية. ومن المبكر القيام بأية استنتاجات حول المحصلة النهائية لسياسات التحالف في المنطقة. ولكن الدروس والعبر مديدة وغزيرة كالغيث إذا هطل في الصحراء العربية الواسعة.