من المؤكد أن نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي، كانت وما زالت تدرك أنها لا تستطيع انتزاع صلاحيات الرئيس بوش بصفته المسؤول دستورياً عن وضع السياسة الخارجية الأميركية، وتحديد المسارات التي تحقق مصالح الأمن القومي الأميركي. وترتيباً على هذا، من المستبعد أن يكون القصد من الزيارة التي قامت بها إلى تل أبيب ثم إلى دمشق، هو تقرير السياسات الأميركية في الشرق الأوسط بل إن المقصد كان توجيه رسالة إلى الناخب في الولايات المتحدة تبين أن "الديمقراطيين" في حالة فوزهم بمقعد في الرئاسة العام المقبل، لديهم منهج مختلف في رعاية المصالح الأميركية في المنطقة، أقل تكلفة من الناحيتين البشرية والاقتصادية. الغاية من تحرك بيلوسي إذن، هي استقطاب الناخبين لصالح المرشح "الديمقراطي" للرئاسة في المستقبل وليس تغيير سياسة الرئيس في الزمن الراهن. وفي إطار هذه الغاية الواضحة يمكن القول، إن بيلوسي قد حققت أهدافها على الرغم من ردود الفعل التي أطلقتها إدارة بوش لتأكيد سيطرتها على المسارات السياسية من ناحية، وطمس النموذج الذي حاولت بيلوسي الزعيمة "الديمقراطية" تقديمه للأميركيين من ناحية ثانية. لقد ارتكز تحرك بيلوسي على إحياء تقرير "بيكر- هاملتون" في قضيتين: الأولى، قضية الوجود العسكري الأميركي في العراق، التي نصحت لجنة "بيكر- هاملتون" باعتماد أسلوب الحل الدبلوماسي بشأنها وفتح الحوار مع الطرفين المؤثرين سوريا وإيران. أما القضية الثانية فهي قضية إحياء مسار السلام العربي- الإسرائيلي باعتبارها قضية مهددة للمصالح الأميركية. أمسكت بيلوسي بالتوصيتين معتمدة على صدورهما عن حكيمين من حكماء السياسة الأميركية، تجاوزا أثناء وضع التقرير انتماءاتهما الحزبية ليعليا من شأن المصلحة العامة فاندمج بيكر "الجمهوري" مع هاملتون "الديمقراطي" في بوتقة واحدة عليا. قبل توجهها إلى دمشق لمناقشة الدور السوري في تهدئة الوضع بالعراق، قررت بيلوسي ألا تقوم بالزيارة ويدها خالية من هدية تهم السوريين، ومن هنا بدأت بزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أولمرت، لتحصل منه على إشارة تفيد بأن إسرائيل راغبة في إيصال رسالة إلى سوريا تعني أن حكومته معنية بفتح الطريق لعملية السلام السورية- الإسرائيلية. لقد استقبل السوريون الرسالة- الهدية بطريقة تعكس حنكة سياسية، فهم من ناحية أبدوا ترحابهم برسالة بيلوسي، وفي نفس الوقت سجلوا اندهاشهم لتناقضها مع مواقف أولمرت المعلنة الرافضة للتفاوض معهم، فضلاً عن ذلك، حرص السوريون على ألا يردوا بيلوسي بيدها فارغة، فأعلنوا استعدادهم للتدخل لدى "حزب الله" و"حماس" لإنهاء صفقة الإفراج عن الجنود الإسرائيليين الثلاثة المختطفين. إلى هذا الحد يمكن استخلاص دلالة نجاح بيلوسي في إرساء نموذج المعالجة الدبلوماسية الناعمة لمشكلات المنطقة وعوائده الإيجابية، غير أن قراءة ردود فعل إدارة بوش التي بدأت قبل أن تغادر بيلوسي دمشق، تقدم دلالة أخرى تفيد التشكيك في حكمة تحركها وإظهار الأضرار المترتبة عليه التي لحقت بالمصالح الأميركية. في تقديري، أن البيان الذي أصدره مكتب أولمرت يوم الأربعاء الماضي قبل أن تغادر بيلوسي دمشق، قد جاء بإيعاز من البيت الأبيض، فمحتواه مناقض لرسالة بيلوسي ومؤيد لمنطق إدارة بوش في التعامل مع سوريا. قال البيان: إن على سوريا أن توقف دعمها للإرهاب قبل استئناف مباحثات السلام السورية- الإسرائيلية، مبيناً ما تعنيه كلمة الإرهاب بوقف توفير الملجأ لحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي" ووقف إمداد "حزب الله" بالسلاح ووقف الدعم السوري لقوى الإرهاب في العراق، وقطع العلاقات الاستراتيجية مع إيران. بهذا البيان الإسرائيلي سحب البيت الأبيض الهدية التي حملتها بيلوسي إلى دمشق، ليتلو هذا هجوم مباشر على زيارتها بلسان صقر إدارة بوش نائبه ديك تشيني، الذي اعتبر الزيارة تقويضاً للجهود الأميركية لعزل سوريا إقليمياً ودولياً، حيث إن لقاء مسؤولة أميركية مهمة بالرئيس السوري، يمثل مكافأة له دون مقابل، لأنه لم يتجاوب بعد مع المطالب الأميركية. لقد أكدت إدارة بوش امتلاكها زمام الحاضر وإدارة السياسة في المنطقة، في حين استطاعت بيلوسي أن ترسل رسالتها للناخبين حول نموذج "ديمقراطي" مختلف للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط يمكن تطبيقه في المستقبل إذا ما دعم الناخبون المرشح الرئاسي "الديمقراطي".