الأزمة المحتدمة حالياً في مجال الرهانات مرتفعة الفائدة، تكشف عن ورطة أعمق تواجه الرأسمالية الاستهلاكية التي تتشدق دوماً بشعار "الطبائع البروتستانتية"، والتي يقصد بها طبائع العمل الشاق القائم على أداء الواجب دون تلهف على النتائج -التي ستأتي فيما بعد حتماً. فما حدث في الواقع، هو أن تلك الطبائع البروتستانتية قد استُبدلت بطبائع أخرى يمكننا أن نطلق عليها "الطبائع الطفولية" القائمة على الائتمان السهل، والاستهلاك القهري، وهي طبائع تعرِّض الديمقراطية ونظام السوق للخطر. فالفضيلة الجوهرية للرأسمالية، هي أنها تزاوج بين الأثرة وتحقيق المنفعة الذاتية. فهي عندما تنتج البضائع والخدمات التي تحقق حاجات استهلاكية حقيقية، تؤمِّن ربحاً للمنتجين، لأن تحقيق الخير للغير، لابد وأن يؤدي في النهاية إلى تحقيق الخير للنفس. وكان نجاح الرأسمالية يعني أن الحاجات الجوهرية في العالم المتقدم قد تم إشباعها في معظمها، وأن هناك كميات أكبر مما ينبغي من السلع، تطارد أعداداً أقل مما ينبغي من الناس. ونظراً لأن الرأسمالية تتطلب منا أن "نحتاج" حتى تستطيع البقاء على قيد الحياة، فإنها تشغل نفسها بصناعة احتياجات للأغنياء (غير المحتاجين)، مع القيام بتجاهل احتياجات المحتاجين فعلاً، وهو ما أدى إلى عدم مساواة عالمية لأن الأغنياء لم يعد لديهم سوى احتياجات أقل مما ينبغي، ولأن الثروة الموجودة بأيدي المحتاجين قد أصبحت أقل مما ينبغي. وهكذا وجدت الرأسمالية نفسها في مأزق حرج، قد يعرِّضها لكارثة طويلة الأمد. فنحن لا زلنا نعمل بجد، ولكن من أجل أن ندفع ونلعب فقط. فمن أجل تحويل القطاعات العازفة عن الاستهلاك كنتيجة لأنها لم يعد لديها سوى عدد محدود من الاحتياجات الجوهرية غير المشبعة، يجب على المنتجين أن يقنعوا المستهلكين بأنهم يفهمون خيراً منهم ويعرفون ما يريدونه تحديداً ولذلك فإنهم -المنتجون- يجب أن يكونوا هم الذين يقومون بصوغ احتياجاتهم. بمعنى آخر يجب على المستهلكين أن يتركوا زمامهم تماماً للمنتجين كي يقوم الآخرون برسم سياسات تشجعهم على الشراء القهري (دون تفكير، وعلى تنمية مشاعر الإدمان على الشراء لديهم، بل واختراع حاجات جديدة لهم. في نفس الوقت الذي يقوم فيه المنتجون بهذا مع المستهلكين الناضجين، فإنهم يقومون أيضاً بتمكين الأطفال وتدشينهم كمتسوقين من خلال شرعنة أذواقهم الموحَّدة، واحتياجاتهم الزئبقية، وفصلهم عن آبائهم وأمهاتهم ومدرِّسيهم. وهذا الأمر يشمل حتى الأطفال الذين لم يتعلموا المشي بعد، والقادرين على التعرف على شعارات الماركات الاستهلاكية المختلفة قبل أن يتمكنوا من الكلام، كما يشمل أيضاً الأطفال الذين يتمتعون بعبقرية مبكرة لا تقل عن عبقرية "أنشتاين" ليس في الفيزياء، ولكن في التعرف على السلع، والذين يتعلمون التسوق قبل أن يتعلموا المشي! والنزعة الاستهلاكية تتطلب هذا النوع من الطبائع الطفولية، لأن تلك الطبائع تميل إلى الاسترخاء والتمتع بأوقات الفراغ وتفضلهما على الانضباط، كما أنها تُعلي من قيمة الاندفاع الطفولي والنرجسية الصبيانية، وتضعهما في مرتبة تفوق انضباط البالغين والمصلحة الذاتية المستنيرة، كما تميل إلى تفضيل الألعاب الموجهة صوب الاستهلاك، على الترفيه التلقائي البريء. ومثل هذه الطبائع تغذي منطق السوق الخاصة الذي يقول: "إن ما أحتاجه هو ما يحتاجه المجتمع"، وتحارب المنطق العام المصوغ من قبل الديمقراطية، والذي يقول "إن ما يحتاجه المجتمع هو ما أريده أنا أو ما أحتاجه". هذه هي طريقة الرأسمالية المنطقية للغاية في حل المشكلة المتمثلة في وجود عدد أكثر مما يجب من السلع، التي تطارد عدداً أقل مما يجب من الاحتياجات. فهي تجعل الاستهلاك في كل مكان، وتحول التسوق إلى إدمان ييسره الائتمان. ولتوضيح ذلك علينا أن نقارن بين أي سوق تقليدي وأي مركز للتسوق (مول) حديث من تلك المراكز أو "المولات" الموجودة في ضواحي المدن العصرية الحديثة. في الميدان الذي كان يقام فيه سوق البلدات التقليدية، كنا نجد المدرسة، ومبنى المجلس المحلي، والمكتبة، والمحل العام، والحديقة، ودار السينما، وقاعة الفنون والمنازل - أي حياً حقيقياً كاملاً يعرض تنوعنا ككائنات بشرية تقوم بما هو أكثر من الاستهلاك. أما (المولات) الحديثة، فهي مخصصة بأكملها للتسوق ولا شيء غير التسوق من محلات مفتوحة طوال الوقت. عندما نرى السياسة وقد تغلغلت في كل قطاع من قطاعات الحياة، فإننا نسمى ذلك "توتاليتارية" أو شمولية... وعندما يتحكم الدين في كل شيء، فإننا نطلق على ذلك "ثيوقراطية" أو الحكومة الدينية، وعندما تتحكم التجارة وتسود، فإننا نطلق على ذلك "ليبرالية". والسؤال هنا هل نستطيع إعادة توجيه الرأسمالية إلى غايتها الصحيحة، وهي إرضاء الاحتياجات الإنسانية الحقيقية؟ الإجابة هي: حسناً، ولمَ لا؟ إن العالم مليء بالاحتياجات الجوهرية، كما أنه مسكون بمليارات من البشر المحتاجين. هؤلاء البشر ليسوا في حاجة إلى أجهزة تشغيل الموسيقى الرقمية (آي بود) iPods، وإنما هم في حاجة إلى مياه الشرب النقية، وليسوا في حاجة إلى المشروبات الغازية، وإنما إلى الأدوية الرخيصة، وليسوا في حاجة إلى أطباق لاقطة تمكنهم من مشاهدة محطة "إم تي في"، ولكنهم في حاجة إلى كتب تعلمهم مبادئ القراءة، وهم في حاجة في النهاية إلى نظام للرهانات العقارية منخفض الفائدة، وليس إلى بطاقات ائتمانية تجعلهم يقبلون على الشراء دون تبصر، ودونما حاجة حقيقية. ولكي نحقق ذلك فإن الرأسمالية مطالبة مرة أخرى بأن تؤجل الأرباح، وتُمكِّن المحتاجين كمستهلكين. ولتحقيق ذلك، فإننا سنحتاج إلى مساعدة من مؤسسات ديمقراطية، وسنحتاج كذلك إلى طبائع الكبار والناضجين وليس طبائع المراهقين. ولكي تتمكن الرأسمالية من إدامة نفسها، فإنها ستضطر إلى الاستجابة إلى الاحتياجات الحقيقية، بدلاً من محاولة خلق احتياجات اصطناعية، ومن دون ذلك، فإنها مُعرضة لأن تأكل نفسها. بنيامين آر. باربر ــــــــــــــــــــــ أستاذ بجامعة "ميريلاند"، ومؤلف الكتاب الشهير "الجهاد في مواجهة عالم الماك" ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"