زارني في الأسبوع المنصرم مستشرق ألماني شاب، كان ذلك في دمشق، حيث يُراد للتراث أن يعانق الحداثة، لكن بصيغة أتت للأسف، مخيِّبة للأمل. فـ"الحداثة" تبدو كأنها آفة تجد مهمتها في التهام ما تستطيع من مظاهر التراث العربي العريق في مراحله المتعددة مما قبل الإسلام وصولاً إلى القرن العشرين، أما أن تكون الحداثة المذكورة من ذلك النمط الالتهامي فقد يتجلى في كونها دخلت المجتمعات العربية من باب خبيث ما إن يتمكن في مجتمع ما، حتى يأتي عليه، ونعنِي النزعة الاستهلاكية الطائشة. لقد لاحظ الأستاذ المستشرق من خلال زيارته لبعض المدن العربية -وهو محقٌ في ملاحظته- أن الاهتمام بالتراث الوطني والقومي يتضاءل لصالح اهتمام متزايد بمراكز البيع والأسواق، إلى حدّ أن مواقع تراثية تزول لتنشأ بدلاً منها مثل تلك المراكز. وتساءل فيما إذا تمكنت العولمة من زحزحة مجموعة القيم التراثية الثقافية والأخلاقية، التي نُظر إليها من حيث إنها متماهية مع الشخصية الشرقية عموماً، والعربية على نحو الخصوص، وفيما إذا كان ذلك سينعكس على الحضور الإسلامي في أوساط الناس، بقدر أو بآخر، وأخيراً فيما إذا كانت "الأصولية"، والحال كذلك، قابلة للاستمرار بوصفها أيديولوجيا اعتقادية وموقفاً سياسياً وأخلاقياً من أحداث العصر. كان تنبُّهُ المستشرق الألماني يتنامى مع تعاظم وتائر الحوار بيننا واقترابه من الإشكالات الساخنة في حقل الفكر العربي الإسلامي، وقد توقف عند ظاهرة الأصولية، معتبراً أنها تثير التباساً في استخدامها اللغوي اليومي، ورأى أن منشأ الالتباس يكمن فيما يلي: إذا خاطبك الناس في حياتهم اليومية كإنسان يجمع في شخصه عناصر الاحترام والتوازن والوفاء والصدق والشهامة... الخ، فإنهم يستخدمون كلمة "أصولي" فهل -وهذا هو الشق الثاني من التساؤل- يتم إذاً استخدامها اللغوي والاصطلاحي عشوائياً؟ كان ذلك مناسبة للإشارة إلى أن علماء اللغة العربية غائبون عن التدقيق اللغوي في الموجة الواسعة لنقل الأفكار والمصطلحات على نحو يحافظ على حيوية اللغة العربية في هذا الشأن. وفي الواقع، أن نشوء مثل هذا الالتباس لا يوقع بمشكلات لغوية فحسب، وإنما كذلك في أخطاء فكرية قد تنسحب مع قطاعات ذات حساسية بالغة، كما هو الحال بالنسبة إلى ما نحن الآن بصدده. والحق، أن جموعاً من الباحثين والمفكرين والكتّاب العرب يقعون في مثل تلك الحالة من القصور عن ضبط منظوماتهم الفكرية، مع إشارة إلى غياب علاقات العمل المشترك بينهم وبين الباحثين في اللغة العربية. وبمزيد من التحديد والتشخيص، يمكننا القول إن الالتباس المعني وقعنا فيه ضمن بعض من كتاباتنا السابقة، مِمّا أنتج حالة من الاضطرابات في الحوارات والسجالات، التي قامت بيننا وبين زملاء لنا في بلد عربي أو آخر، بل كذلك بيننا وبين أصدقاء أوروبيين يشتغلون بالشأن الفكري العربي الإسلامي. ولعلنا وُفِّقنا في ما انتهينا إليه على صعيد المسألة المطروحة الآن، فقد اتضح أن الدراسات اللغوية المقارنة بين العربية ولغات أخرى يمكن أن تسهم في حل ما هو مُشكل في حالتنا. إذا كان الأمر كذلك، فإن الباب يغدو مفتوحاً أمام صيغ من الضبط الاصطلاحي واللغوي، فتحت ثقل الحاجة أُتيح لنا أن نصل إلى أن مفردة "أصولية" تقدَّم في العربية بصيغتين بارزتين، واحدة تنطلق من دلالتها اللغوية الأوّلية، وواحدة تبني بنيتها على دلالتها الاصطلاحية. ومن ثم، فإن "أصولية" هي ما تعارف الناس عليه من صفات الاحترام والتوازن والوفاء والصدق والشهامة... إلخ، مما يسمح بإدراج المفردة في إطار القيم الأخلاقية ونظرية القيمة. وضمن هذا المعنى نفسه، تبرز دلالة أخرى لها، لـ"الأصولية" هي ذات بعد تراثي وتاريخي يتعلق بأولئك الرجال، الذين برزوا في التاريخ الإسلامي من حيث هم حافظوا على الأصول العربية والإسلامية، فصنّفوها وهمّشوها، ووثقوها وأخضعوها لنمطيْ النقد التاريخي، الداخلي والخارجي، بقدر من الموضوعية النظرية والأيديولوجية، وعبر استخدام تقنيات البحث العلمي الممكنة في حينه. وفي هذه الحال، يمكن التحدث عن ذلك كله، دون منحه بعداً اصطلاحياً محدداً. أما هذا البعد فتكتسبه الكلمة المعنية، حين تُناط بها وظيفة التعبير عن مدرسة فكرية أو مذهب أيديولوجي وسياسي وغيره. وفي هذه الحال، نجد أمامنا إمكانين اثنين، فأولهما يفصح عن نفسه بأن نُحيط كلمة "أصولية" بعدد من الصفات الإيضاحية، كي تعبر عن المطلوب. أما في الإمكان الثاني، فيأتي الأمر بصيغة مصطلح، أي كلمة جديدة كلياً أو جزئياً يُصطلح عليها بما يراد له أن تعنيه. كل ذلك يقدم للأستاذ المستشرق بعض الدليل على أن الأصولية هي إحدى القراءات في الإسلام، وليس كلها، ومن ثم، فالخيار مع الحرية مفتوح على الفعل. وما عمّق حمِيميّة العلاقة بيني وبينه تمثل في التنبّه إلى أن خطر الأصولية (إسلامية أو مسيحية أو غيرهما) سيكون معقداً وماحقاً، حين تنسحب هذه على السياسة والاقتصاد أو السياسة والعلم. فهنا، يجد الإنسان نفسه مشدوداً إلى الماضي باطراد.