انتهت احتفالات زفاف موريتانيا في عرسها الديمقراطي... ونالت من إعلام العالم العربي ما يكفي وما يعادل نسبة كبيرة من تاريخ الديمقراطية كله في العالم الثالث، وعبَّر الكُتاب العرب عن كل إحباطاتهم ومآسيهم مع نظمهم، في شكل فرحة بـ"النموذج الموريتاني". وحتى بعض القادة العرب الذين بادروا أثناء المعركة الانتخابية باستنكار هذه المبالغة حول "هرجة الديمقراطية"، بادروا بالإعلان عن توجههم إلى نواكشوط في التاسع عشر من أبريل 2007 لحضور تنصيب الرئيس "سيدي ولد الشيخ عبدالله"، رئيساً جديداً، وديمقراطياً لجمهورية موريتانيا "الشقيقة". كما حظي العقيد "أعلى ولد محمد فال" بالتكريم العالي لتخليه عن "المقعد" بهذه السلاسة في الموعد المحدد، ضمن تجربة ذات شأن في العالم العربي المحروم من معالم الحياة الديمقراطية! لكن ذلك ليس هو الحال تماماً بالنسبة للرأي العام الأفريقي، وقد ذكرنا في كتابات سابقة كيف أن أكثر من سبعة رؤساء أفارقة تنازلوا عن الحكم استجابة لإجراءات ديمقراطية ارتضوها، وأن بعض الجنرالات الأفارقة انسحبوا من "المقعد" في الوقت المناسب لنقل السلطة إلى المدنيين. وقد لا تكون هذه هي النقطة التي نريد الحديث عنها، لأن الأهم من ذلك هو الأسف على الواقع العربي، الذي يعيش لأكثر من ثلاثين عاماً متصلة محروماً من مظاهر تداول السلطة، نتيجة عناد استبدادي ضد حركة ديمقراطية لا يستطيع أحد نكرانها بين فئات المجتمع العربي السياسية والاجتماعية. ومن هنا يبدو الدرس الأفريقي الذي يستحيل فيه على العسكريين في كثير من المواقع الأفريقية أن يستمروا بهذا الشكل في ظل الضغط الديمقراطي -والشعبي الكاسح أحياناً- الذي شهدته مجتمعاتهم. وقد حدث ذلك بالفعل طوال العقدين الأخيرين في بنين ومالي والنيجر ومدغشقر، وبالمثل في نيجيريا وغيرها. هنا لا يبدو تنازل القائد العسكري -مع كل التقدير لسلوك "ولد فال" ومبادرته- تطوعاً شخصياً أو "تنازلاً" لا مبرر له أو من دون ضغط من حوله. ونقول بكل التقدير لـ"ولد فال"، لأننا لابد أن نعرف أن ثمة حالات استحال فيها تنازل البعض حتى وقعت المذابح -أو رغم حدوث المذابح- بين أبناء الوطن كما حدث في رواندا أو الكونغو وغيرهما. وهنا تأتي المقارنة بالحالة العربية التي لا يريد فيها عدد من الرؤساء "التنحي" مباشرة أو عبر إجراءات ديمقراطية معروفة لهم، رغم زخم الحركة الديمقراطية وضغط كافة القوى السياسية في بلادهم، بما لا نريد أن نصرح بالأمثلة هنا لدواعٍ من الحرص يعرفها الجميع! هنا تبرز قيمة المثل الموريتاني كمثال أفريقي وليس عربياً. فالمجتمع الموريتاني يعج بالحركة السياسية التي شهدت معركته الانتخابية، والتي تنافس فيها أكثر من ثلاثين تنظيماً، في تحالفين كبيرين، إلى جانب المستقلين الذين تنافسوا على موقع الرئاسة، بعد أن حصلوا على مواقعهم في البرلمان المنتخب منذ بضعة شهور. موريتانيا هنا مثال أفريقي، لأن بجوارها تجربة السنغال الديمقراطية طويلة العمر، كما بجوارها جمهورية مالي التي أطاحت منظماتها الشعبية وجمعياتها الأهلية بحكم عسكري عام 1992، وكذلك النيجر وبوركينا فاسو.. الخ. وفي موريتانيا تفاعلت تنظيمات سياسية وحقوقية عديدة على مدى عقد من الزمان على الأقل في مواجهة "ولد الطايع"، وضمت هذه التحركات "ليبراليين"، وقوميين، عرباً و"بعثيين" و"ناصريين" وتنظيمات "يسارية" وسلفية، وأخرى عرقية سوداء، ممن ظلمهم التاريخ الموريتاني كثيراً. هذه التجمعات هي التي دفعت بالموقف كله إلى هذه "النقلة" الديمقراطية. ولم يكن للمجلس العسكري أن يتجاهلها، وهو الذي جاء بانقلاب هو الرابع ضد "ولد الطايع" في ظرف ثلاث سنوات أخيرة، إلى حد القول أحياناً إن انقلاب "ولد فال" كان رد فعل من قبل "أصحاب المصالح"، لحفظ استقرارهم، خوفاً من انقلابات متطرفة ضد مصالحهم. وقد أكدت ذلك التصريحات المتضاربة من قبل بعض العسكريين أثناء التمهيد للحملة الانتخابية للرئاسة، وميل بعضهم لطرح احتمال استمرار رمزهم "ولد فال" في السلطة، أو ضمان نفوذهم بعد الانتخابات بل وضمان ترتيبات "الاستقرار" لهذه المصالح بعد "التغيير"، بما فيه ضمان العلاقة مع إسرائيل ومن هم وراءها. وقد أدى ذلك لتحليل آخر، قد لا يقبله الكثيرون من المتفائلين، وهو أن الطبقة الحاكمة السابقة، وإنْ تخلت عن "ولد الطايع"، فقد سلمت بوصول "ولد الشيخ" الوزير السابق في حكم ولد الطايع، بدلاً من الانتقال الكامل بالحكم إلى يد "ليبرالي" معارض آخر مثل "ولد داداه"، والذي قد يعني وصوله للحكم -رغم "ليبراليته"– إجراء تغييرات في هيكلة الطبقة ليسوا مستعدين لها. ومن هنا أدهشوا العالم بنجاح "ولد الشيخ" وسقوط رمز حركة المعارضة التقليدية "ولد داداه". والآن نتوقع أن تحكم عقلانية "ولد الشيخ" مسار التقدم الديمقراطي الليبرالي في موريتانيا، خاصة وأننا نتوقع احترامه لمن تحالفوا معه دون غيره في الدورة الثانية لمعركة الرئاسة بعد خسارتهم مباشرة في دورة التصفية الأولى، وباعتبار منطلقين على قدر من الأهمية في المجتمع الموريتاني، أولهما تقديره لموقف "مسعود بلخير" الذي يلتف حوله المجتمع الجنوبي من "السودان" أو السود أو "الحراطين" أو "التكرور"، حسب التعبيرات الشائعة! وثانيهما، جماعات "يسارية" لا أعتقد إلا أنها ذات توجه أفريقي بدورها بقيادة "ولد مولود"، وكان مرشح "اليسار" في الجولة الأولى، حيث بقيت جماعات "بعثية" وسلفية على تحفظها من الجميع. ومعنى ذلك أن "ولد الشيخ" لم يعد عليه فقط أن يبقى أسير التهاني العربية الفرحة بشكلية الصورة الليبرالية للديمقراطية، ولكن عليه أن يعالج البعد الاجتماعي للديمقراطية، الذي يطالب به حلفاؤه وتدفع به النخب الأفريقية التي طال اتهامها لنظم الحكم في موريتانيا بتجاهل تجارة الرقيق "في موريتانيا العربية". وفي أحدث بيانات لبعض المراكز مثل "معهد الحراطين للتنمية".. الخ، وعدد من المنظمات الحقوقية المشغولة بقضية "تجارة الرقيق" التي ما زالت آثارها الاجتماعية في موريتانيا، أو بالأحرى "وضع الاسترقاق" الذي ما زال في بعض مناطق العائلات العربية العريقة، يضع هؤلاء من بين مطالبهم الصريحة، ضرورة النص في دستور جديد على محاربة تجارة الرقيق، وستشغل هذه القضية الإعلامية "ولد الشيخ" بالضرورة أو تبقى وسيلة ضغط خارجية -أو داخلية- دائمة ضده! خاصة وأن هذه الفترة تشهد الاحتفال بالذكرى المائتين لإلغاء تجارة الرقيق عالمياً. والملفت هو الموقف، الذي ما زال يشوبه التحفظ عند الحكم الجديد حول موقع السفارة الإسرائيلية في نواكشوط، رغم أن هذه ترتبط بالوضع العربي كله، وليس بالوضع في موريتانيا وحدها. لكن المفاجأة الفعلية الآن هي في بروز رغبة بعض عناصر حكومة "العسكر" مرة أخرى، وقبل تولي الرئيس "ولد الشيخ" بأسبوعين في حملة "الحرب على الإرهاب" بالإعلان عن اعتقال أعضاء "جماعات سلفية"، ليس فقط لاعتراضهم على الانتخابات التي بدت سليمة، ولكن لأنها مجموعات، مما يسمى بتنظيم "القاعدة"... الخ. ومن المتصور أن يتولى المجلس العسكري تأمين "المسالك" أمام الحكم الجديد، ولكن شكل الإعلان عن ذلك كان أقرب إلى تأكيد "المكانة" المبكرة للمجلس العسكري القائم، وفي إطار الخطط الأميركية السائدة في المنطقة قبل أن يحدد "النظام الديمقراطي" الجديد معالم مسيرته... هنا تبدو موريتانيا عربية وأفريقية في آن معاً... وبخيارات صعبة.