تستحق قمة الرياض وقفة أطول من أجل تحليل أكثر عمقاً كونها قد وضعت جدول أعمال عربياً لمدة قادمة إلى حين انعقاد القمة التالية لها، بل لعل قمة الرياض جديرة بهذه الوقفة أكثر من غيرها لما طرحته قراراتها من مهام في عدد من المجالات بالغة الحيوية للعمل العربي المشترك. ولتكن نقطة البداية هي قرارات هذه القمة تجاه الصراع العربي- الإسرائيلي. وليس مطروحاً في هذا السياق أن يتم التطرق إلى كافة التفاصيل المتعلقة بتلك القرارات، لكن المطروح هو الإمساك بالنقاط المفصلية فيها، وهو ما يقودنا إلى النهج الذي تبنته لحل الصراع العربي-الإسرائيلي أو تسويته، والذي ينبع من "الالتزام العربي بالسلام العادل والشامل كخيار استراتيجي"، كما ورد في ديباجة القرار الخاص بالقضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي ومستجداته، وبذلك كان منطقياً أن يبدأ قرار القمة في هذا الصدد بالتأكيد على "تمسك جميع الدول العربية بمبادرة السلام كما أقرتها قمة بيروت عام 2002"، وهو قرار جيد لأنه تم في مواجهة جهود إسرائيلية لتعديل المبادرة على نحو يفرغها من مضمونها، وتحركات أميركية في الاتجاه نفسه، وإن ادعت غير ذلك. لكن معضلة النظام العربي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي لا يحلها مجرد التمسك بمبادرة بيروت لأكثر من سبب، فهذا النظام يتمسك بالمبادرة منذ خمس سنوات دون أن يتحقق شيء على أرض الواقع، ولعلنا نذكر أن قمة فاس1982 قد تبنت ما سمي حينذاك بصيغة فاس التي كانت قد بنيت بدورها على مبادرة الأمير فهد بن عبدالعزيز، والتي كانت أكثر تشدداً في مطالبها من إسرائيل وأقل مرونة في التنازلات المقدمة لها على نحو ما سيجيء، ومرت عشرون سنة كاملة من 1982 إلى 2002 دون أن ينفذ منها حرف واحد، ولذلك فإن الخلل يبدو واضحاً، وهو أن ميزان القوى لا يسمح حتى الآن بتنفيذ مبادرة بيروت أو غيرها، بدليل أن كافة الإنجازات الإيجابية التي تحققت في مسار الصراع كالجلاء عن سيناء 1982، واعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية 1993، والهروب الإسرائيلي من الشريط الجنوبي المحتل في لبنان في عام 2000... وغير ذلك، لم تتحقق إلا بعد أن تم إحداث تغيير ما في ميزان القوى المختل بين العرب وإسرائيل. ما العمل إذن وقد أعلنت القمة التزامها بالسلام كخيار استراتيجي؟ ومع أن القمة يحمد لها أنها لم تضف وصف "وحيد" إلى هذا الخيار الاستراتيجي فإن هذا لا يغير من الأمر شيئاً، وهو أن تنفيذ المبادرة يحتاج إلى "قوة" بالمعنى الشامل للكلمة، وإذا كان النظام العربي الرسمي بمنأى الآن عن استخدام القوة بمعناها العسكري المباشر في إدارة صراعه مع إسرائيل فإن ثمة أوراقاً أخرى كثيرة للضغط لم تستخدم على الإطلاق. لأن الممارسات السابقة للنظام تنظر للضغوط على أنها ذات طبيعة دبلوماسية فحسب، ومن هنا فإن خيار التسوية العربي يدور في حلقة مفرغة لن يكسرها إلا تغيير أساليب المواجهة مع إسرائيل بما يحقق نقلة نوعية في الوضع العربي. وحتى إذا قبلت إسرائيل المبادرة العربية -وهي لا يمكن أن تفعل على الأقل لاستحالة تخليها عن القدس الشرقية طوعاً- ورضيت بالدخول في مفاوضات على أساسها فإن المعضلة لن تُحَل بل قد تزداد تفاقماً، فليست إسرائيل مستعدة حتى الآن لأن تضيع على مائدة المفاوضات ما حققته في ميدان القتال، والأهم من ذلك أن صياغة المبادرة ستفتح المجال لجدل واسع يتطلب استدعاء ميزان القوى بين الطرفين لحسمه، فالمبادرة تشير مثلاً إلى "انسحاب كامل من الأراضي العربية المحتلة" دون أن تشير صراحة إلى ما أوردته صيغة فاس 1982 في بندها الثاني وهو "إزالة المستعمرات التي أقامتها إسرائيل في الأراضي العربية بعد عام 1967". وسيفضي ما هو معروف عن حقيقة النوايا الإسرائيلية والأسلوب التفاوضي الإسرائيلي إلى معضلات لا حصر لها كإقناع إسرائيل بأن مفهوم الانسحاب في مبادرة بيروت يتضمن تفكيك المستوطنات، وما كان أجدر مبادرة بيروت بأن تنص صراحة على هذا التفكيك تجنباً لتلك المعضلات. كذلك فإن المبادرة فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين قد نصت على "التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194"، صحيح أن الإحالة للقرار 194 تعد من إيجابيات المبادرة، نظراً لما يعنيه ذلك من تخيير اللاجئين الفلسطينيين بين العودة أو التعويض، لكن صيغة المبادرة تتحدث عن حل عادل "يُتفق عليه" بما يفتح الباب لاعتراضات ومماطلات إسرائيلية بلا حدود، بينما كانت صيغة فاس تنص صراحة على "تأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وممارسة حقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف... وتعويض من لا يرغب في العودة". أي أن حق العودة وفقاً لتلك الصيغة كان مُسلماً به، ويبقى التعويض فقط لمن لا يرغب في العودة. قصدت بهذا أن أبيِّن أن أية مفاوضات بين الطرفين العربي والإسرائيلي بموجب مبادرة بيروت لن تكون –بفرض حدوثها- سهلة، خاصة وأن صياغة المبادرة تسمح لإسرائيل بمحاولة إحداث ثغرات في جدار المطالب العربية. لكن السؤال الذي يسبق الحديث عن معضلات التفاوض هو: هل تبدأ المفاوضات أصلاً؟ سيقولون إن قمة الرياض قد قررت تكليف اللجنة الوزارية الخاصة بمبادرة السلام مواصلة جهودها وتشكيل فرق عمل لإجراء الاتصالات اللازمة مع الأمين العام للأمم المتحدة، والدول الأعضاء في مجلس الأمن، واللجنة الرباعية، والأطراف المعنية بعملية السلام من أجل استئنافها وحشد التأييد للمبادرة وبدء مفاوضات جادة، لكننا لا يجب أن ننسى أن هذا القرار يكاد يكون بحذافيره هو قرار قمة بيروت 2002 التي طلبت من رئاستها "تشكيل لجنة خاصة من عدد من الدول الأعضاء المعنية والأمين العام لإجراء الاتصالات اللازمة لهذه المبادرة، والعمل على تأكيد دعمها على كافة المستويات وفي مقدمتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن والولايات المتحدة والاتحاد الروسي والدول الإسلامية والاتحاد الأوروبي". لكن شيئاً لم يحدث. من هنا فإن الأمل لا يبدو كامناً في مواصلة اللجنة الثلاثية جهودها، وإنما في الفقرة الأخيرة من قرار قمة الرياض التي كلفت مجلس الجامعة على المستوى الوزاري بمتابعة "تقييم الوضع بالنسبة لجهود السلام الحالية ومدى فاعليتها، وإقرار الخطوات القادمة للتحرك في ضوء هذا التقييم"، فمن خلال عملية المراجعة هذه يمكن أن تكون هناك بداية جديدة. ويعني ما سبق أن أهم ما في قرارات قمة الرياض بشأن الصراع العربي- الإسرائيلي ليس هو التمسك بمبادرة بيروت، وإنما التلويح بمراجعة السياسات العربية، وهنا فقط يمكن أن نتحدث عن مراجعة حقيقية قد تمثل دفعة للوضع العربي الراهن في معادلة الصراع، كأن تلمح إلى أن السلام كخيار استراتيجي يتعرض للتآكل بسبب التعنت الإسرائيلي والانحياز الدولي، أو أن تفضي إلى دعوة إسرائيل -بدلاً من المماطلات والمناورات- إلى إعلان عرض تفاوضي واضح في مقابل العرض العربي المتمثل في مبادرة السلام بدلاً من الاكتفاء بموقف الناصح الأمين، أو أن تقود إلى كسر عربي فوري وقاطع للحصار المفروض على فلسطين، أو أن تؤدي إلى دعم النظام العربي مجدداً لحق المقاومة المشروع ضد الاحتلال، أو أن تمكن من سعي حقيقي لكسب الأنصار في الساحة الدولية. أو أن تسمح بفتح قنوات اتصال حقيقية وفاعلة مع الحزب "الديمقراطي" في الولايات المتحدة الذي بات يسيطر على الكونجرس بمجلسيه، ويسبب للرئيس الأميركي إزعاجاً متواصلاً في قضايا السياسة الخارجية، وقد آن الأوان لمد جسور الحوار العربي -ولو غير الرسمي- مع دوائر هذا الحزب وخاصة أن الرئيس الأميركي القادم سيكون منتمياً إليه على الأرجح. كان التمسك بمبادرة بيروت في قمة الرياض إذن عملاً جيداً، لكنه ليس كافياً بأي معيار لتحرير الأراضي العربية المحتلة، ولذلك آن أوان المراجعة لكسر الحلقة المفرغة التي تدور فيها جهود النظام العربي الرسمي من أجل تحقيق تسوية متوازنة مع إسرائيل ناهيك عن أن تكون عادلة.