ظهرت في العالم العربي والإسلامي كتب ومقالات لا تحصى في ذم الغرب والتهجم على الحضارة الأوروبية ومعاداة الولايات المتحدة، ولكن أما آن الأوان لأن نستعيد توازننا النقدي وتقييمنا الفكري، فنلتفت إلى بعض الخدمات العظيمة التي قام الغرب بها، واستفاد منها المسلمون أعظم استفادة؟ أما جاء الوقت المناسب لأن نكف عن هذه المكابرة والجحود، ونقر بالدور الكبير الذي لعبته العقول والعطاءات الفكرية والعلمية والتكنولوجية الأوروبية والأميركية في تقدم العالم الإسلامي وتحسن أحوال المسلمين؟ خذ مثلاً عدد المسلمين في العالم الذي يقترب من المليار ونصف المليار، هل كان يمكن أن يصل إلى هذا العدد لولا الطب الغربي المتقدم، الذي يحمي تكاثر المسلمين في أفقر دولهم وأشدها بؤساً، كما يوفر لأطفالهم أسعد طفولة ممكنة، بعيداً عن الجدري والكوليرا وشلل الأطفال وعشرات الأمراض الأخرى؟ انظر إلى الأدوية شديدة الفعالية والتنوع التي طورها الأطباء الغربيون، وجربوها في بني جلدتهم وأحياناً في أنفسهم، قبل أن يصدِّروها للعالم، والتي يتداوى بها ملايين المسلمين، فتشفي الكثيرين وتهوِّن على مئات الملايين التعايش مع أمراض السكري وضغط الدم وأمراض التنفس والقلب والمفاصل، بل والتي تعالج حتى المسلمين الذين يقعون ضحايا لمن يخدعهم أحياناً باسم "الطب الإسلامي"! ضع في الحسبان كذلك، هذا التقدم الهائل في فنون الجراحة التي تحقق المعجزات وتخلص الناس من أخطر الأمراض، وتنقل الكلى والقلوب والقرنيات من شخص لآخر، وتنقذ من الموت المحقق بعض الدعاة و"قادة الجهاد"، ممن أفنوا أعمارهم في محاربة الغرب وتسميم أفكار الناس بالأفكار العدوانية ضد الغربيين والنصارى! للغربيين من نصارى ومن يهود، ومن علمانيين وليبراليين أو متزمتين ومحافظين، دور عظيم كذلك في تعزيز أداء الفروض الإسلامية، اليومية والموسمية، على أكمل وجه! فما أن يحين وقت أي صلاة، حتى يرتفع صوت الميكروفونات والسماعات، من الفلبين إلى المغرب! وما أن يعتلي خطيب الجمعة المنبر حتى تنقل هذه الأجهزة خطبته إلى أبعد الأحياء والمساكن، ثم تلعب دوراً أساسياً في تنظيم الركوع والسجود في أكبر المساجد وأهمها! وبينما لا يتعدى دورنا في العالم الإسلامي الجدل المتواصل حول صلاة التراويح مثلاً كل رمضان، نرى هذه التقنية الغربية تخدم كل صلاة وكل خطبة، وكل إمام وواعظ... بمنتهى الأمانة والإخلاص. ومن عجب أننا لم نسمع من ينهى عن استخدام الميكروفونات والسماعات، أو يعتبرها بدعة دخيلة أو أن استخدامها متعارض مع السُّنة! وتضع تكنولوجيا مدّ المياه وتقنية تبريد الماء وتدفئته نفسها كذلك في خدمة المتوضئين أو المغتسلين من الحدثين الأكبر والأصغر، صيفاً وشتاء، في الدول الحارَّة والباردة من أرجاء العالم الإسلامي. وفي شهر رمضان، وبخاصة في بلدان العالم الإسلامي الحارة، وهي معظم هذه البلدان، يقدم التكييف والتبريد والتجميد دوراً لا ينكر في تخفيف متاعب الصيام والعطش والخمول، ولولا هذه التقنيات في البيوت والسيارات والمكاتب، لتوقفت الحياة الحديثة والمعاملات والدراسة خلال هذا الشهر! وما أن ينتهي رمضان حتى يبدأ استعداد المسلمين لأداء فريضة الحج. وفي هذا المجال كذلك تقدم لهم تسهيلات الحضارة الغربية أعظم الخدمات. فلم يعد المسلم اليوم يحمل هموم السفر مع قوافل الجمال والتعرض لخطر النهب والسلب والقتل، وتحمل كل صنوف الشقاء على مدى عدة أشهر لقضاء هذه الفريضة. وكان عدد كبير من الحجاج يتوفى أثناء تأديتها بسبب مخاطر البر والبحر وانتشار الأوبئة وغير ذلك. فالحاج المعاصر، حتى في أبسط وأفقر الدول الإسلامية، صار ينعم بالطائرة والباخرة والسيارة والتطعيمات الوقائية وصار بوسعه أن يكون على اتصال منتظم بزوجته وأولاده وأهله، بل وإرسال صوره طوال فترة الحج، وما أن يغمى عليه لأي سبب من الأسباب، أو تتوعك صحته، حتى يجد كل الأدوية والمنعشات الطبية الحديثة في انتظاره. وللحضارة الغربية ومخترعاتها الفضل الأكبر، فوق هذا كله، في توسيع مجالات وسبل نشر الدعوة الإسلامية. فالمسلمون الذين بدأت علاقتهم بالطباعة بتحريمها في زمن الدولة العثمانية، صاروا اليوم من أكثر الأمم استفادة منها. وكان المسلمون، مثل غيرهم، يعتمدون على الكتابة اليدوية والمخطوطات، وكانت الكتب غالية الثمن ومحدودة التداول، وإن كان حالنا أفضل من حال الأوروبيين في القرون الوسطى، ثم حدثت خلال القرن العشرين ثورة طباعية إسلامية كبرى، وصارت مجلدات المصاحف وكتب التفسير والفقه والسيرة وكتب وكتيبات الجماعات الإسلامية فوق كل رف وفي كل مكتبة ومنزل، مجلدة، ومُذهَّبة، وإن كانت في أحيان كثيرة... غير مقروءة! وقدمت الحضارة الغربية خدماتها الجليلة للإسلام وللإسلام السياسي بالذات، وجماعاته ومذاهبه، في مجال أشرطة الكاسيت، التي لعبت الدور البارز في نجاح أول "ثورة إسلامية" معاصرة عام 1979 في إيران، وصعود نجوم عدد هائل من الخطباء الإسلاميين والمحرِّضين في كل مكان... وهاتِ يا صراخ وفتن! وما أن تراجع دور الكاسيت قليلاً، حتى برز شريط الفيديو، وصارت الدعوة بالصوت والصورة، وتهيأ المجال لظهور المسلسلات والصور المتحركة والقصص والإرشادات والمواعظ، فظهرت بذلك ثقافة دعوية جديدة لها نجومها وأسواقها الواسعة. وقد وجد المسلمون عامة والإسلاميون الحزبيون خاصة، تقنية التلفاز والفضائيات في خدمتهم على أفضل وجه، وصارت الدول عاجزة عن مراقبتهم أو حتى معرفة من يتابع برامجهم. وهكذا، كما نرى اليوم، تم إغراق طبقات الأثير بمئات الخطب والبرامج، التي تعتمد أكثر ما تعتمد على التكنولوجيا التي طورتها أوروبا والولايات المتحدة، بينما تكرس أغلب هذه الخطب والبرامج لكيل الشتائم لها، ولمن يتفهم حضارتها ودورها... من "الحداثيين"! وبينما قدم الإنترنت خدمات جليلة للعرب والمسلمين العقلاء والحضاريين، وعزز مجالات التفاهم والتواصل والثقافة، تلقفها المتطرفون الإسلاميون، والتكفيريون الدمويون، لنشر "ثقافة" الكراهية ودعوة الإرهاب والقتل. وبقي الإنترنت مخلصاً أميناً في خدمة المعتدل والمتطرف والإرهابي... من المسلمين! وفّرت الحضارة الغربية بتسهيلاتها ومخترعاتها أجواء البهجة والجمال في معظم أنحاء العالم الإسلامي! إذ كانت هذه البلاد تغرق مع بداية المساء في ظلام لا آخر له، وفي تخلف وفقر ضارب الأطناب، وكان شبح الأوبئة يهدد الأرياف والمدن، وتعاني البوادي من الفقر والجوع والمشاحنات، وصارت الأضواء ومشاعل الكهرباء اليوم تنير معظم مدن العالمين العربي والإسلامي، وتضيء المساجد والأسواق والبيوت. وكان الخوف من العفاريت والغيلان والسعالي ووحوش الفلوات وعشرات الكائنات الخرافية، يملأ حياة الناس رعباً في القرى والبلدات في سائر أنحاء العالم الإسلامي. بينما تنتشر اليوم المطاعم والمقاهي، ويتحلق الناس حول أجهزة التلفاز أو في مقاهي الإنترنت، وصار الكثير من الأطفال لا يخاف حتى من أفلام الرعب! فتح الغرب كذلك، وبمنتهى السخاء خزائن علمه وأبواب معاهده وجامعاته لمختلف طلاب وطالبات العالم العربي والإسلامي، ولولا يد المساعدة هذه، لما كان في هذه البلاد كلها اليوم هذا العدد الهائل من الأطباء والمهندسين والصيادلة والمتخصصين في مختلف المجالات العلمية والصناعية. وقد درس وتدرب الملايين من شباب العالم الإسلامي في جامعات أوروبا والولايات المتحدة، وتولوا بدورهم تأسيس المعاهد والجامعات في بلدانهم منذ بدايات القرن العشرين. لم تنحصر استفادة المسلمين من الغرب بالانتفاع من مخترعاته وعلومه فحسب، فقد استفادوا كثيراً من تراثه ونظمه وقوانينه في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة. كما فتحت أميركا وأوروبا مختلف مجالات الحياة أمام الجاليات العربية والإسلامية فيها، وبالفعل، نشأت هناك مجتمعات وتوجهات إسلامية جديدة وظهرت فرص واسعة للاستفادة الحضارية من هذا الامتزاج التاريخي والثقافي والديني الهائل. ولكنكم جميعاً تعرفون ماذا حدث بعد ذلك، ومن كان السبب!