قد لا تعجب الكثيرين سياسات الرئيس الباكستاني برويز مشرف، لاسيما وأنه من ذوي البدلات الكاكية، الذين لطالما تسببت مؤسستهم العسكرية في ضرب الديمقراطية والحكم المدني، بل تسببت أيضاً في انسلاخ ما كان يعرف بالجناح الشرقي للدولة، وبالتالي سقوط المبدأ الذي قامت عليه باكستان ككيان ممثل لمسلمي شبه القارة الهندية. غير أن ما يحسب لمشرف أنه يحاول اليوم الترويج لمفاهيم جديدة، هي في الواقع جزء مما كان يحلم به مؤسس البلاد محمد علي جناح، الذي لم يعش سوى عام واحد بعد قيام دولته. فالأخير، رغم أنه مخترع نظرية قيام كيان منفصل عن الهند التاريخية على أسس دينية بحتة، كان علمانياً في فكره وتوجهاته ونمط حياته، الأمر الذي يشي بأن تبنيه لفكرة الدولة الدينية لم يكن سوى وسيلة لإشباع طموحاته السياسية في الزعامة الأولى، وهو ما كان هدفاً بعيد المنال في ظل وجود قادة منافسين كبار كالمهاتما غاندي و"جواهر لال نهرو" و"مولانا أبو الكلام آزاد"، وغيرهم من رموز الحركة الوطنية في الهند البريطانية. ومشرف الذي رصد عنه مراراً إعجابه بالنظام العلماني القائم في تركيا، حيث عاش صباه يوم كان والده ملحقاً عسكرياً في السفارة الباكستانية في أنقرة، يحاول منذ وصوله إلى السلطة في عام 1999 على إثر انقلابه على الحكومة المدنية المنتخبة بقيادة رئيس الوزراء نواز شريف، أن يشرعن لحالة مخالفة لتلك التي ترسَّخت مع مرور الزمن، أي حالة الدولة المقيَّدة في سياساتها الداخلية بأحكام وضوابط دينية إسلامية. فمن بعد رحيل "جناح" المفاجئ في عام 1948 وصعود رفاقه إلى السلطة، لم يجد هؤلاء ما يستعينون به في ظل فقدانهم للكاريزما الجماهيرية والشرعية التاريخية واصطدامهم بالتهديد الخارجي وتحديات بناء الدولة المستقلة سوى الارتكان إلى الدين كعامل جامع، وموحد للقوميات التي يتشكل منها الشعب الباكستاني. ولئن استخدمت النخب السياسية والعسكرية التي توالت على السلطة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، الإسلام باعتدال في بناء وترسيخ الكيان الوليد، فإن من أعقبوهم منذ السبعينيات ابتداء بالزعيم المدني "ذو الفقار علي بوتو" وخليفته العسكري الجنرال "ضياء الحق"، تمادوا في الأمر وصولاً إلى محو آخر ما تبقى من صور باكستان العلمانية. فالأول مثلاً كان أول زعيم باكستاني، يتبنى تطبيق أحكام الشريعة رغم خلفيته الاشتراكية وإعجابه الكبير بتجربة "ماو تسي تونج" في الصين، وهو ما فُسر في حينه على أنه محاولة لكسب الدعم المالي من دول الشرق الأوسط النفطية الغنية، في وقت كانت فيه بلاده منهكة من هزيمتها المرة في حرب البنغال (1971) وانفصال جناحها الشرقي في دولة مستقلة تحت اسم بنجلادش. أما الثاني، فقد شهد عهده جنوحاً واسعاً نحو تطبيق أحكام الشريعة على مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، وذلك من أجل تحقيق هدفين: كسب قوى الإسلام السياسي إلى جانبه، تعزيزاً لدعائم نظامه العسكري الفاقد للشرعية، وجني المزيد من المساعدات و الهبات المالية من دول النفط. ورغم أن مشرف اصطدم ولا يزال يصطدم بميراث أسلافه ممن زرعوا الأصولية الدينية في باكستان ورعوا نموها وتجذرها في مختلف الأوساط –بما في ذلك أوساط المؤسسة العسكرية وجهازي الأمن و المخابرات– وساهموا في نشر ما يعرف بثقافة الكلاشينكوف، فإن محاولاته في السنوات الأخيرة للترويج للإسلام الحضاري المعتدل كطريق نحو التنمية والانفتاح والتمازج مع دول آسيا غير الإسلامية الصاعدة لم تتوقف. من مظاهر هذه المحاولات دفاعه عن حقوق المرأة الباكستانية وإصدار حكومته لتشريعات عصرية تنقض بعضاً مما شرعه أسلافه أو مما تجذر كتقليد وعرف قبلي من قوانين وأعراف مخالفة لحقوق المرأة في المساواة وحرية الاختيار. ومن مظاهرها أيضاً قرارات حكومته حول ضبط عشرات الآلاف من المدارس الدينية التي تفرخت في العقدين الأخيرين وراحت تنشر الغلو والتطرف والكراهية في المجتمع بدلاً من تعليم الشباب ما يساعدهم على ولوج أسواق العمل واقتحام معترك الحياة من علوم العصر. ومؤخراً، أقدم مشرف على خطوة جريئة أخرى، بغض النظر عما أثارها من شبهات دستورية أو ما قيل حول دوافعها. ونعني بهذه الخطوة تنصيبه لقاضٍ باكستاني من الأقلية الهندوسية على رأس المؤسسة القضائية خلفاً للقاضي المسلم "افتخار محمد تشودري" المتهم باستغلال منصبه وصلاحياته في تعيين ابنه في وظيفة حكومية بارزة. فلأول مرة منذ الخمسينيات حينما كانت البلاد تحاول إعطاء انطباع للعالم بأن قيامها على الدين (الإسلام) كعنصر وحيد لا ينفي حقوق أقلياتها غير المسلمة في تولي وظائف الدولة العليا، فعينت المسيحي المولود في مدينة "أغرا" الهندية "ألفين روبرت كورنيليوس" كبيراً للقضاة، يُصار إلى بعث هذا المبدأ العلماني. ولأن كبير القضاة الجديد "رانا بهاغوانداس" (64 عاماً) هذه المرة هندوسي الديانة، فإن للأمر مدلولاً، ربما فاق مدلول السابقة الأولى، كون الهندوسية إحدى الديانات الكبرى الأصيلة في المنطقة، ناهيك عن أن الهندوس (عددهم لا يتجاوز اليوم ثلاثة ملايين نسمة أي أقل من 2 في المئة من عدد السكان البالغ 160 مليون نسمة، ويتركزون بصفة خاصة في إقليم السند وكراتشي) شكلوا نسبة معتبرة من سكان الأراضي التي تكوَّن منها الكيان الباكستاني قبل أن تضطر غالبيتهم العظمى إلى الهجرة إلى الهند أثناء عملية التقسيم القسري لشبه القارة الهندية، شأنهم في ذلك شأن بعض مسلمي الهند الذين هجروا أراضيهم ونزحوا إلى باكستان جرياً وراء سراب مشروع جناح الخاص بإقامة الكيان المسلم الحامي لثقافتهم وعقيدتهم، بما فيهم أسرة مشرف نفسه المنحدرة من منطقة قريبة من دلهي. وبطبيعة الحال، أثار هذا القرار الجريء من مشرف احتجاجات واسعة شارك فيها كل خصومه في التيار الديمقراطي وتيار الإسلام المتشدد، بحجة أن تعيين مواطن غير مسلم على رأس الجهاز القضائي في دولة ركيزتها ودين السواد الأعظم من شعبها هو الإسلام مخالف شرعاً ودستوراً. غير أن هذه الحجة يمكن تفنيدها بسهولة. فالتعديلات التي أدخلت على دستور البلاد عام 1974 لم تمنع الباكستاني غير المسلم من تولي منصب قاضي القضاة أو أي وظيفة عامة سوى رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة اللتين اشترط فيمن يتولاهما أن يكون مسلماً. هذا فضلاً عن أن القاضي "بهاغوانداس" حاصل على درجة الماجستير في القانون والدراسات الإسلامية وملتحق بسلك القضاء الباكستاني منذ عام 1965، ويملك خبرة طويلة استمدها من عمله قاضياً في محكمة السند العليا منذ عام 1994، ناهيك عن أن الأحكام القضائية التي يصدرها كبير القضاة عادة ما يشترك فيها ثلاثة قضاة آخرون. والحال أن مشرف يخوض معركة كبيرة، قد لا تأتي بكل النتائج المرجوة لانتشال باكستان من ميراث ثقيل يزيد عمره عن نصف قرن، غير أن هذه المعركة باتت اليوم ضرورة ملحة لدولة شاءت الأقدار أن يرحل مؤسسها سريعاً وترحل معه أفكاره ومشاريعه الطموحة في بناء كيان نموذجي قوي مستقر ينافس الكيان التوأم في الهند.