رغم تقديرنا الكامل لرواية الكاتب السوداني الشهير الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال"، التي أخذت شهرة عالمية وجرت ترجمتها للغات عدة، فإن الظروف الإقليمية والدولية اليوم تدعو العالم العربي جميعه، من خليجه إلى مغربه، إلى "الهجرة شرقاً". لقد بات الخيار الاستراتيجي واضحاً وجاء "موسم الهجرة إلى الشرق"، فالمبررات كثيرة، والدوافع أكثر، والطريق مفتوح، والمصالح الحيوية والعلاقات التاريخية ممتدة عبر العصور، والتفاهم المشترك تجاه القضايا المصيرية متوافر. إن تطوير العلاقات العربية أو الخليجية مع دول الشرق الآسيوية هو التوجه الصحيح الذي يمكن أن يحقق ما تصبو إليه الدول من تقدم اقتصادي وثقافي وعلمي، وليس التوجه شمالاً وبناء علاقات واهية مع أوروبا وأميركا، جلبت المصائب وتعتمد على الإملاء وفرض المصالح، وليِّ الحقائق والبحث عن مكاسب دون النظر لمصالح دول المنطقة، ودونما اعتبار لقضاياها. ومن الدلائل المعاصرة على أهمية التوجه شرقاً النجاح الهائل الذي حققته زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، إلى الهند منذ نحو أسبوعين، وما أسفرت عنه من نتائج اقتصادية لصالح الدولتين، ناهيك عن الدور الذي قام به ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية منذ أكثر من ثلاثة أعوام عندما زار الهند وأوصى بتشكيل مجلس مشترك لرجال الأعمال الهنود والإماراتيين، وما عكسه ذلك من أهمية بناء علاقات مع دول آسيوية لها روابط وعلاقات تاريخية مستقرة مع منطقة الخليج، ولم تكن لها أطماع في يوم من الأيام. ومن ثم نجد أن التوجه الخليجي شرقاً أمر تفرضه مبررات ودوافع مهمة ومتنوعة، تجمعها مصالح عدة بعضها استراتيجي وبعضها الآخر اقتصادي، ومن أهم هذه المبررات والدوافع: * يشهد التاريخ على عدم وجود خلفيات لعلاقات استعمارية لدول شرق ووسط وجنوب آسيا مع الدول الخليجية، بل على العكس كان لمساهمة أبناء معظم هذه الدول الدور الرئيسي في النهضة المعمارية والحضارية لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية. * كما تدل خبرة التاريخ على أن العرب قد عانوا، ولا يزالون يعانون، من دول أوروبا والولايات المتحدة الأميركية نتيجة لحقبة الاستعمار، والحروب والحملات الصليبية، ودورهم في تفكيك العراق ودفعه إلى أتون الحرب الأهلية، في حين أن دول آسيا لم تكن لها يد أو تشارك أو تساعد في ذلك كله، بل في أحيان كثيرة كانت ضحية مثل العرب. * الثبات النسبي في العلاقات السياسية مع دول وسط وجنوب شرق آسيا، بل ومساندتها للقضايا العربية والإسلامية، وبرز وجود مصالح مشتركة بين جميع الأطراف، في حين أن الارتكان السياسي الكامل على الغرب، وخاصة الولايات المتحدة، أدى إلى ضياع كثير من الحقوق العربية، وتراجع أهمية المصالح الحيوية الخليجية لحساب المصالح الغربية والأميركية. * أدت العلاقات الخليجية والعربية الاستراتيجية مع كثير من دول جنوب آسيا إلى المساهمة الجادة في مساندة القضايا العربية بصورة عادلة تضمن حماية المصالح المشتركة لجميع الأطراف، وهنا نتذكر منظمة عدم الانحياز والحياد الإيجابي ومنظمة المؤتمر الإسلامي ودورهما في دعم القضايا العربية والإسلامية. * لا توجد أي ضغوط سياسية أو اقتصادية أو أحلام للهيمنة من دول آسيا تجاه دول الخليج، ومعظم دول آسيا لم تكن يوماً أعضاء في أحلاف معادية للعرب أو المسلمين. * الاستفادة من التوهج الاقتصادي للنمور الآسيوية وخبراتهم وتجاربهم الواقعية في التنمية الشاملة، بعد أن ارتكز التعامل الاقتصادي الخليجي على مدار نصف القرن العشرين على الغرب، وهو أمر لم يحقق الحصول على التكنولوجيا المتطورة، وظهرت قيود عدة على التبادل التجاري ويجري التركيز على منتج وحيد هو "النفط" فقط. * تصحيح مسار التعاون الاقتصادي الشامل بدلاً من التركيز على تصدير سلعة استراتيجية واحدة فقط، من خلال التوسع في جعل أسواق آسيا مجالاً مهماً لتصدير المنتجات الخليجية، حيث تشكل السوق الآسيوية مستقبلاً متنفساً مهماً للمنتجات البتروكيماوية وغيرها. * عدم خضوع التعامل الخليجي مع آسيا للعوامل الأيديولوجية أو للأهواء والمصالح والضغوط التي اشتهر بها الغرب في سياساته واستراتيجياته الخارجية. * تأكيد الانتماء الخليجي لآسيا، والتعاون والتنسيق لمواجهة التهديدات والتحديات والمخاطر المشتركة. * تستطيع دول الخليج النفطية أن توفر لدول آسيا احتياجاتها المطردة والمتضاعفة من الطاقة، الأمر الذي يزيد من قوة ومتانة العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، ويسمح بمزيد من الانفتاح التجاري. * يمكن لدول الخليج العربية الاستفادة من خبرات دول آسيا المتقدمة في التعليم والبحث العلمي والتكنولوجيا، بعد أن تحولت كل من الصين والهند إلى أكبر دولتين متخصصتين في التكنولوجيا رفيعة المستوى التي ستقود الثورة التكنولوجية القادمة، كما باتت اليابان وسنغافورة وماليزيا من الدول المتطورة في مجال التعليم، وهي تمتلك خبرة كافية في تطويره. * الاستثمار وإقامة المشروعات المشتركة على نطاق كبير ومتنوع، حيث تحظى دول وسط وجنوب آسيا بوجود فرص واعدة جديدة للاستثمار، فضلاً عن ظهور شركات آسيوية عالمية، وتحولها إلى منارة لنشر التكنولوجيا في العالم، وإلى المحرك الأساسي للدفع بعجلة النماء الاقتصادي في الدول غير الصناعية، وكذلك فإن الأحلاف والتحالفات الاقتصادية في آسيا قد باتت تمثل قوى مؤثرة في السوق العالمية. يأتي موسم الهجرة إلى الشرق في ظل الصعود الواضح القوي لاقتصاديات دول آسيوية كثيرة، خاصة الصين والهند وماليزيا، هذه الدول قررت أن تخرج إلى العالم بتنوع إنتاجها وبقدرة هائلة على توزيعه، فأصبح واضحاً أن الأقطاب الكبار الجدد قادمون من الشرق، وباتت أسواق هذه الدول مطمعاً مهماً للاقتصاديات الغربية التي تعاني حالياً انخفاضاً في النمو وتبحث عن أسواق لصادراتها، وهنا تكمن الفرصة لدول الخليج العربية لتصبح سوقاً مناسبة لمنتجات هذه الدول في ظل رخص متطلبات النقل والتوزيع نتيجة لقرب مصادر الإنتاج من الأسواق. كما استطاعت معظم دول آسيا أن تحول صراعاتها البينية وغضبها من فقرها وقلة ثرواتها الطبيعية وزيادة سكانها إلى قوة تنطلق بها في مجالات التكنولوجيا وتسخير العمالة الرخيصة لتصبح مصدراً للعملة الصعبة. لذلك فإن للتوجه الخليجي شرقاً عائداً مهماً من كل النواحي، وزادت أهميته الاستراتيجية من التفاعلات التي تحققت عبر العمالة والتبادل التجاري والاستثمار والتفاعل الثقافي، والاشتراك في مواجهة القوى الخارجية. ولكن توجد بعض المحددات والمبادئ التي يجب أن تحكم التوجه الخليجي شرقاً من أهمها: ألا يكون الموضوع موسمياً، بمعنى ضرورة أن يكون مستمراً ونابعاً من إيمان كامل بالأهمية الاستراتيجية لهذا التوجه لصالح تحقيق المصالح المشتركة، وأن يتم وفق سياسة اقتصادية ثابتة تضمن التوازن في الميزان التجاري لكلا الطرفين، مع ضرورة التوسع في الاستفادة من التطورات التكنولوجية الآسيوية المتقدمة، وأن يكون لدول آسيا دور فاعل في الحفاظ على أمن الخليج، من خلال منع وصول التقنيات العسكرية المتقدمة والأسلحة الهجومية إلى الدول التي تهدد أمن واستقرار منطقة الخليج. إن الهجرة إلى الشرق أمر تفرضه المعطيات السياسية والاقتصادية والجيوستراتيجية، لذلك يجب أن يتم وفق استراتيجية بعيدة المدى تعود بالنفع على الجميع، ويجب النظر إليها كخيار استراتيجي يضمن تحقيق المصالح الحيوية الخليجية.