أطلق ائتلاف "حالة طوارئ في دارفور" في الآونة الأخيرة نداء يطالب فيه الدول الأوروبية "بإرسال قوات إلى دارفور بهدف توفير حماية فعالة للسكان من مذبحة شاملة وتدشين ممرات إنسانية آمنة". وقد التزم خمسة مرشحين للانتخابات الرئاسية الفرنسية باتخاذ إجراءات في هذا الاتجاه. ويتعلق الأمر هنا بمبادرة تتسم بالمغامرة لا بل تنطوي على الخطر. وفي الحقيقة، وقعت أكبر مذابح دارفور في وقت سابق، حيث رافق الحملة المناهضة للعصيان التي قادتها الحكومة السودانية ما بين مارس 2003 وديسمبر 2004 مقتل عشرات الآلاف من المدنيين المتهمين بمساندة التمرد بسبب أصولهم العرقية. وعلى أساس 58 بحثاً أجريت بخصوص الوفيات (أجرت منظمة أطباء بلا حدود 16 بحثاً)، يقدر مركز الأوبئة الناتجة عن الكوارث عدد الوفيات المرتبطة بالنزاع بين سبتمبر2003 ويونيو 2005 بـ 131060 حالة. وقد تم اغتيال ربع الضحايا (41000)، في حين لقي الآخرون حتفهم بسبب الجوع والأمراض عندما فروا من المذابح والحرائق التي أضرمت في قراهم والتدمير الذي لحق بسبل عيشهم. ورغم استقرارها في مستوى غير مقبول، فإن أعمال العنف الممارسة ضد المدنيين انخفضت بشكل ملحوظ ابتداء من نهاية سنة 2004، قبل أن تعرف اندلاعاً جديداً. فمنذ النصف الثاني من العام 2006، أحصت بعثة الأمم المتحدة بالسودان ما معدله 200 حالة وفاة مدنية شهرياً، مع تسجيل عدد قياسي تجاوز 400 في شهري سبتمبر ويناير الماضيين. ويرتبط تجدد أعمال العنف هذا باستئناف العمليات العدوانية بين الحكومة والحركات المتمردة غير الموقعة على اتفاقات السلام المبرمة بتاريخ 5 مايو 2006. كما تتسبب فيه أيضاً الجماعات المسلحة (المتمردة وشبه العسكرية) المنقسمة إلى فصائل متنازعة ويتسبب فيه كذلك تضاعف وتيرة العنف بين المجتمعات المجاورة المدججة بالأسلحة. وفي المجموع، فإن الضحايا المدنيين أقل عدداً من أولئك الذين لقوا حتفهم في سنتي 2003 و2004 ويعزى ذلك إلى سبب بسيط جداً: في وقت سابق، تم إخلاء السكان من جزء كبير من المناطق التي يعيشون بها والتي تضررت بسبب موجة العنف الجديدة. وتنتشر المذابح في إقليم كبير على مساحة تعادل مساحة إقليم بفرنسا يعيش فيه 6 ملايين نسمة، ويعيش نصفهم على الأقل في المدن والمخيمات التي تسيطر عليها الحكومة، والتي يتم احتواء أعمال العنف داخلها بشكل متزايد وملحوظ. وحسب الخبراء العسكريين التابعين للاتحاد الأفريقي، فإنه يجب توفير أكثر من 20000 عنصر من القبعات الزرق المنصوص على نشرها بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1706 من أجل استتباب الأمن ومنع حدوث اغتيالات جديدة... شريطة أن يقبل جميع أطراف النزاع بهذا الانتشار طبعاً. غير أن الأمر ليس على هذه الحال، ما دامت الحكومة السودانية تعارض ذلك. ويعني صرف النظر عن هذا الرفض، شن غزو على غرب السودان، بعبارة أخرى إعلان الحرب عليه. وليس هناك أدنى يقين بأن هذا الأمر سيساهم في تأمين السكان المدنيين. ويمثل التدخل الدولي في دارفور صعوبات أكثر حدة من التدخل في كوسوفو أو تيمور الشرقية أو سيراليون، وهي أقاليم صغيرة المساحة تسيطر عليها جماعات مسلحة محددة جداً، والتي يساند فيها غالبية السكان العظمى تدخلاً أجنبياً. وثمة مخاوف من أن "غزو" غرب السودان سينتهي بحمام دم لن يستثني المدنيين، مثلما أسفرت عنه عملية "إعادة الأمل" في الصومال (1992) أو عملية "تحرير العراق". كما أن تدخلاً من هذا القبيل سيؤدي حتماً إلى انهيار برامج المساعدات كما حدث في كوسوفو أو سيراليون أو تيمور الشرقية أو أفغانستان أو العراق خلال فترات العدوان. ومع ذلك، فإنه في الوقت الذي نخط فيه هذه السطور، تم نشر أكثر من 13000 عامل في المجال الإنساني (منهم 2000 ينتمون إلى منظمة أطباء بلا حدود) و12 وكالة تابعة للأمم المتحدة و80 منظمة غير حكومية في دارفور. وبفضل شبكة واسعة من الطرق والممرات الجوية، قدم هؤلاء الفاعلون مساعدات حيوية لصالح حوالي مليوني شخص نازح. ورغم أن ظروف العيش تتميز دائماً بالهشاشة في المخيمات، فإن معدلات الوفيات وسوء التغذية توجد بشكل واضح لكن بمعدلات أقل من المسجلة في حالات الطوارئ (بل هناك معدلات أقل من المعدلات المسجلة قبل الحرب في عدد من المخيمات). وهذه حالات منقطعة النظير في السودان بالنسبة لأولئك الذين يتذكرون الشلل الذي أصاب نظام المساعدات خلال فترات المجاعة الكبرى التي شهدتها سنوات الثمانينيات والتسعينيات. وعلى العكس من ذلك، تزايدت حدة الهجمات ضد العاملين في المجال الإنساني في غضون الأشهر الستة الأخيرة، مما جعل المهمات الجارية حالياً أكثر خطورة وجعل الوصول إلى الضحايا الجدد أكثر صعوبة. ويقوم بجزء من أعمال العنف هذه العصابات المسلحة من مختلف الأطياف (بما في ذلك المتمردون) التي لا تتردد في اغتيال العاملين في المجال الإنساني من أجل الاستيلاء على سياراتهم أو وسائل لوجستية أخرى. كما تعزى هجمات أخرى شرسة وقاتلة إلى الإستراتيجية المتعمدة التي تتبناها الحكومة السودانية. ويبدو أن هذه الأخيرة تسعى إلى تحقيق هدفين اثنين: إبعاد منظمات المساعدات من مناطق العمليات العسكرية وإجهاض مشاريع التدخل الدولي عن طريق احتجاز العاملين في المجال الإنساني كرهائن. إذ لم يترك الارتفاع الحاد للهجمات التي تستهدف موظفي الإغاثة بعد التصويت على القرار رقم 1706 مجالا لأية شكوك. ومن شأن استئناف المفاوضات بين الحكومة والحركات المتمردة والميليشيات شبه العسكرية وحده أن يخفف من نسبة العنف في دارفور. ولتحقيق ذلك، يلزم المجتمع الدولي أن يقوم بعمل مشترك مع الأخذ بعين الاعتبار الحاجة إلى مساعدة السكان المدنيين وحمايتهم. ويمكن أن نتحسر على أن ائتلافاً قادراً على استدعاء المرشحين الرئيسيين للانتخابات الرئاسية يفضل الاستسلام للمزايدات الحربية (مجازفاً بإضعاف إحدى عمليات الإغاثة الأكثر فعالية في العشرين سنة ماضية) بدلاً من دفع الحكومات الأوروبية إلى الانخراط بجدية في سياسة للتوسط. أما بالنسبة لمرشحينا الرئاسيين، فمن المقلق أن نراهم يوافقون بشكل أعمى على توصيات ائتلاف منشغل أكثر بتبرير الحرب للحكومة السودانية أكثر من اهتمامه بالأوضاع الحالية لسكان دارفور. جون هيرفي برادول ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس منظمة "أطباء بلا حدود" ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ فابريس وايسمان مدير البحوث في "أطباء بلا حدود"