لم تكن الخمس سنوات الأخيرة التي مرت بها فرنسا، المعتزة دائماً بنفسها، أفضل السنوات في مسيرتها الحافلة بالإنجازات والاعتداد بالذات. فمنذ أن عارضت الحرب في العراق، ووقفت في وجه أميركا عام 2003، ومنذ أن قال الفرنسيون "لا" للدستور الأوروبي، وواشنطن تنظر إلى بلد الحرية والإخاء والمساواة على أنه أقل جدوى مما كان عليه في السابق، وأن مكانة فرنسا العالمية التي طالما تباهت بها وحرصت على الحفاظ عليها في تراجع مستمر. هذا الشعور الجارف بتراجع الدور الفرنسي على الساحة العالية امتد إلى الفرنسيين أنفسهم الذين انخرطوا في خطاب نقدي يلوم النفس ويشكك في المستقبل الذي ينتظر فرنسا مع بداية الألفية الثالثة. وقد زادت مشاعر الخوف والارتياب حدة مع الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها ضواحي بعض المدن الفرنسية وما تميزت به من اندلاع أعمال عنف واسعة في خريف 2005 أدت، في حالة تشبه دول العالم الثالث، إلى إعلان حالة الطوارئ. لكن ومع احتدام شدة التنافس قبيل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 22 أبريل الجاري برزت مواقف ورؤى جديدة تؤكد على دور فرنسا الباقي والمستمر على الساحة الدولية ليس فقط داخل التراب الفرنسي، بل حتى في الخارج. هذا الدور النابع أساساً من الأوراق التي مازالت تحتفظ بها فرنسا والتي عددها "كورت فولكر"، وكيل وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الأوروبية في "مشاركة فرنسا في حلف شمال الأطلسي، ونفوذها الكاسح داخل الاتحاد الأوروبي، وانتسابها إلى مجموعة الاتصال في البلقان، لكن الأهم من ذلك هو امتلاكها للقوة النووية، ومقعد دائم في مجلس الأمن الدولي". لكن "كورت" يشير أيضاً إلى "مقدرة فرنسا على التأثير خارج حدودها، دون أن تكون لاعباً أساسياً على هذا الصعيد، وهو ما يسعى المرشح الأوفر حظاً نيكولا ساركوزي إلى تغييره". وبينما تتصارع الرؤى التي يتبناها مرشحو الانتخابات الرئاسية الفرنسية حول مستقبل البلاد، يبدو واضحاً أن باريس، وإلى جانبها برلين ستكونان في قلب النقاشات التي ستجري حول مآل الاتحاد الأوروبي في المرحلة القادمة. ورغم المحاولات الحثيثة التي تبذلها أنجيلا ميركل، التي ترأس بلادها الدورة الحالية للاتحاد الأوروبي من أجل صياغة مفهوم جديد لأوروبا، فإن أياً من ذلك لن يحدث إلا بعد انتهاء الانتخابات الفرنسية في السادس من شهر يونيو القادم. وبخصوص المسؤولية المشتركة الألمانية -الفرنسية لرسم مستقبل الاتحاد الأوروبي يقول "بيرنهارد كامبمان"، دبلوماسي ألماني في باريس "إنه من دون الإرادة الفرنسية في الانخراط مع الاتحاد الأوروبي، فإن هذا الأخير لن يرى النور أبداً". والأكثر من ذلك يرى المراقبون أنه في ظل المصاعب التي تواجه الولايات المتحدة في العراق، والتوجه الأميركي الأخير القائم على نهج متعدد الأطراف ليس من الغريب أن يتراجع الحديث عن "أفول فرنسا". وفي هذا الإطار يشير "جويوم بارمونتيي" من مركز أميركا والعلاقات عبر- الأطلسية في باريس "إنه عندما يتعلق الأمر بتطابق في وجهات النظر حيال السيادة الدولية والقانون، فإنه من الصعب العثور على حليف وشريك خارج أوروبا، خصوصاً بالنسبة للأميركيين الذين هم في حاجة ماسة إلى أصدقاء". ولأسباب عديدة من بينها شبكاتها الدبلوماسية والثقافية المتداخلة، فضلا عن تعاونها الأمني الفعال، وإن كان كتوماً، أصبحت فرنسا أكثر حضوراً على الساحة الدولية، مما يعتقد البعض. فعدم مشاركة فرنسا في الحرب على العراق، لم يمنعها من استضافة أكبر مركز لعمليات مكافحة الإرهاب في أوروبا الذي أسسته وكالة الاستخبارات المركزية بتعاون مع الأجهزة الاستخباراتية الفرنسية في 2002 ويسمى ب"قاعدة التحالف". يضاف إلى ذلك تعاون الأجهزة الأمنية الفرنسية والوكالات القضائية مع نظيراتها الأميركية لملاحقة العناصر الإرهابية. هذا وتتبنى فرنسا أحد أكثر المواقف العالمية تشدداً فيما يتعلق بانتشار السلاح النووي، لا سيما في كوريا الشمالية وإيران، وهو ما أكسبها إشادة السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة "جون بولتون". ويزداد الدور الفرنسي بروزاً بالنظر إلى مؤسستها العسكرية القوية التي تربطها علاقات وثيقة مع القوات الأميركية، بحيث غالباً ما تقرن فرنسا القول بالفعل وتنشر قواتها في الميدان خلافاً للعديد من القوى الأخرى. فحالياً تنشر فرنسا ما يقارب 12 ألف من قواتها في مناطق مختلفة من العالم سواء في أفغانستان، أو لبنان، أو في العديد من البلدان الأفريقية مثل ساحل العاج وغيرها. هذا الحضور العسكري الفرنسي الملحوظ خارج حدودها هو ما حدا بمساعد وزيرة الخارجية لشؤون جنوب آسيا "ريتشارد باوتشير" إلى التوجه إلى باريس لإجراء مباحثات مع السلطات الفرنسية حالما ترددت إشاعات بقرب تنفيذ "طالبان" لهجوم كاسح خلال الربيع الجاري. ومع أن النفوذ الفرنسي التقليدي في القارة الأفريقية قد شهد بعض التراجع على الصعيدين الاقتصادي، والسياسي، فإن علاقاتها الثقافية مع مستعمراتها القديمة مازالت قوية. كما أن تمسك فرنسا برفضها القاطع للمشاركة في الحرب على العراق أكسبها أصدقاء في العالم الإسلامي، أو على الأقل أبعد عنها شبهة الإمبريالية التي عادة ما تلصق بأميركا وحليفتها الأوثق بريطانيا. وفي هذا الإطار يقول "أليكس كروس"، معلق سياسي في باريس "إن الفرنسيين حلفاء مهمين لأميركا في مسائل تتعلق بسوريا وإيران، ذلك أن فرنسا تتمتع بمصداقية في الشرق الأوسط تفوق بكثير ما تحظى به أية دولة أوروبية أخرى. وهو أمر تحتاج إليه الولايات المتحدة بشكل عاجل في الشرق الأوسط". وعلى الرغم من أن فرنسا تقليديا سعت، لا سيما في عهد الرئيس الأسبق "شارل ديجول" إلى لعب دور أكبر من حجمها على الصعيد العالمي وتكريس تفردها، فإن معارضتها الأخيرة للحرب في العراق أزعجت كثيراً الولايات المتحدة، ما حدا بوزير الدفاع الأميركي السابق "دونالد رامسفيلد" إلى تصنيفها في خانة دول "أوروبا القديمة". ـــــــــــــــــــ مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في باريس ــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"