ربما يبدو الآن أن حكومة السودان تراجعت عن موقفها الذي أعلنته مراراً في السابق، وهو رفض القبول بقوة أممية تأتي إلى دارفور لدعم قوات الاتحاد الإفريقي التي لم تؤهلها إمكانياتها لمراقبة وقف إطلاق النار في دارفور وتحقيق السلام. تراجعت الخرطوم عن ذلك الموقف وقبلت بتنفيذ "الحزمة الثالثة" من الدعم الدولي الذي سيتبنى رفع عدد القوات الأممية في إقليم دارفور إلى نحو 20 ألف جندي. لكن حكومة السودان لم تعلن قرارها الجديد، وكأنها تحس بحرج شديد وهي تتراجع عن الرفض المطلق وإطلاق التهديدات بإشعال مقاومة دامية ضد أي تدخل دولي في الإقليم! إن إحجام الخرطوم عن إعلان قرارها الأخير، أثار شكوك واشنطن التي ما فتئت تطالب حكومة السودان بموقف واضح لا يقبل الشك، بل إن واشنطن هددت مرة أخرى بفرض عقوبات على السودان ما لم يبادر بالإعلان رسمياً عن تغيير موقفه. أمّا كيف حدث هذا التحول في موقف الخرطوم، فهو أن اجتماعاً عُقد على هامش القمة العربية الأخير في الرياض، وشارك فيه إلى جانب رئيس الجمهورية السودانية عاهل المملكة العربية السعودية والأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة والأمين العام لجامعة الدول العربية. وأعلن الأمين العام الأممي بعد هذا الاجتماع أن لقاءً مع الرئيس السوداني كان جيداً وقال: "تمكنّا من الوصول إلى أرضية مشتركة للتفاهم على الطريقة التي تسهِّل معالجة الوضع في دارفور". أمّا الاجتماع الموسع المشار إليه آنفاً، فقد توصل إلى اتفاق على "أن تبعث الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي لجنة فنية مشتركة لتتدارس مع السودان حزمة الدعم الثقيل، ليتم الاتفاق حولها بصورة نهائية". و"الدعم الثقيل" هو ما يسمى "المرحلة الثالثة" لدعم الأمم المتحدة، والذي يرفع عدد المشاركين من جنودها في العملية إلى الرقم المذكور آنفاً. إن هذه الإجراءات متى ما نفذت، تعني انفراجة كبيرة للوضع في دارفور، ذلك أن كل التقديرات الموضوعية تقول إن الوضع المنفلت أمنياً هناك، يمكن السيطرة التامة عليه متى ما وجدت قوات مناسبة وقادرة وعندها الإمكانيات لمساعدة القوات الإفريقية التي عجزت عن ذلك. لقد أهدر السودان بضعة شهور برفضه التدخل الأممي، منذ أن اتضحت الحاجة إليه، ولاشك أن أرواحاً كثيرة قد أهدرت في دارفور خلال هذه الفترة، ثم إن مستوى الإغاثة وتقديم العون الإنساني للمشردين عن ديارهم بسبب سوء الأحوال الأمنية، قد تراجع بصورة أدت إلى تفاقم الوضع هناك. إن الرجوع للحق فضيلة لاشك، ولكن هذا ينبغي ألا يمنعنا من إعادة النظر في سياسات حكومة الخرطوم التي تتسم كثيراً بالتسرع وعدم دراسة الوضع بصورة متأنية. وتفويت الفرص في قضية أو محنة مثل محنة دارفور، كان ينبغي البحث عن حل لها، مقدمٌ على كل ما سواه. ولنأمل الآن أن تكون الخرطوم قد استفادت من الدرس، فلا تتكرر الأخطاء مرة أخرى.