لا يدرك الإنسان واقعه بشكل حسي مباشرة، وإنما من خلال الخريطة الإدراكية، الخريطة التي يحملها في عقله ووجدانه، فهي التي تحدد ما يمكنه أن يراه في الواقع، إذ تستبعد وتهمش بعض التفاصيل فلا يراها وتؤكد البعض الآخر بل وتضخمها وتمنحها مركزية. ويمكن أن أضرب مثلاً على ذلك باستجابة الصهاينة للمقاومة الفلسطينية، ولمدى كره العالم للدولة الصهيونية الآخذ في التصاعد. وابتداءً يجب أن أشير إلى علم جديد يسمى علم Victimology، أي دراسة دور الضحية. ويذهب المتخصصون في هذا العلم إلى أن من يلعب دور الضحية، يملك رصيداً سياسياً ضخماً يمكنه من خلاله أن يبرر أفعاله باعتبارها "دفاعاً مشروعاً عن النفس". ويبدو أن الصهاينة اكتشفوا هذه الحقيقة قبل ظهور هذا العلم، ووظفوها توظيفاً جيداً! فقاموا بتفريغ المقاومة العربية من مضمونها الإنساني، وتحول المغتصب -مهما بلغ جرمه ومهما أتى من أفعال- إلى ضحية أبدية. ويبدو أن هذه لا تزال هي الاستراتيجية الإعلامية الصهيونية. ولكن بدأت صورة إسرائيل كضحية تتراجع، كما يلاحظ "يونتان يافين" في مقال بعنوان "العالم كله يقف ضد إسرائيل، لأنها ما زالت تتظاهر بأنها الضحية دائماً" (يديعوت أحرونوت 22 مارس2007). يقول الكاتب "لقد حدث تآكل في الصورة الإعلامية لليهود ولإسرائيل. العالم كله يقف ضدنا في الآونة الأخيرة. معاداة السامية تطغي في أوروبا. يُهشمون شواهد قبور، ويرسمون كتابات على الجدران، ويطمسون نُصباً يهودية، وفي الحين نفسه يحتضنون في فرنسا حماس الحبيبة ويضعون على هامة إسماعيل هنية تاج جان دارك، لأنهم يحبون الثورات هناك. وفي بريطانيا المجاورة يستعد بلير للرحيل، ولا نعرف أي زعيم سيحتل مكانة، وأي أجندة معارضة للصهيونية ستصدر عنه". ثم يحاول الكاتب أن يفسر هذا الوضع: "مرة كنا أبطالاً كباراً، قلّة بإزاء كثرة، عادلين بإزاء بُغاة، ولكننا أصبحنا أمة، وأصبحنا أكثر تطوراً وأقل عدلاً، كعادة الأمم. بقي المخ الوطني فقط كمخ ولد صغير مُدلل، لا يدرك بسهولة الصورة الكبيرة. منذ نصف قرن كنا نحن العجلة الغارقة، (أي الضحية)، ولكننا لم نعد كذلك، لكن هذا لم يُعقنا (ولا يعيقنا) عن الاستمرار في السلوك مثل الغارقين (أي الضحايا). العالم من جهته تقدّم، ويقوم كعادته بتحرير الغارقين الجدد: العراقيين، والإيرانيين، والأفغان، والفلسطينيين". كل هذا يعني أن الإسرائيليين لم يعودوا محتكرين لدور الضحية، وأنهم يلعبون الآن دور الباطش الذي يتظاهر بدور الضحية لهم. ما الحل إذاً؟ يقول الكاتب: "يجب تغيير التصور النفسي- الوطني. ليست المشكلة في صورتنا بل في تصورنا. وكل تفسير ينبع منه سيكون مُختلاً". أي أن "الاستمرار في لعب دور الضحية ليس حلاً بل هو المشكلة، وأن الخريطة الإدراكية الصهيونية لابد وأن تتغير". ونفس الموضوع تطرقت له "هيلا ربابورت" (معاريف 25 مارس 2007) في مقال بعنوان "استطلاع للرأي أجرته بي بي سي: إسرائيل تُعد الدولة ذات التأثير الأسوأ في العالم... وإيران في المرتبة الثانية". تتساءل الكاتبة: "ما الذي يجب أن يشعر به إسرائيلي ينهض في الصباح، ويفتح الصحيفة، ليتبين أنه يبدو مثل أحمدي نجاد (تقريباً)؟ قرر استطلاع للرأي أجرته مؤخراً شبكة الـ"بي.بي.سي" في 27 دولة، أن إسرائيل تُعد الدولة ذات أسوأ تأثير في العالم، بل إنها أسوأ من إيران. ولتفسير هذه الظاهرة، تسوق الكاتبة عدة أسباب نوردها للقارئ، لنوضح الخريطة الإدراكية: 1- يوجد عدد كبير من المسلمين يعيشون في ظروف شديدة تولّد عندهم إحباطاً. وهم لا يستطيعون إخراج هذا الإحباط في وجه الدول التي يسكنونها، لأنهم لا يستطيعون المس باليد التي تُطعمهم. طريقتهم الوحيدة للتعبير عن الإحباط هي توجيه الكراهية والأحاسيس المعادية للغرب وإلى إسرائيل. 2- يُبين الدكتور "ألون ليئال"، الذي كان في الماضي المدير العام لوزارة الخارجية، أن العالم يرى أن إسرائيل هذه الأيام رافضة للسلام. فإسرائيل ردت بالنفي على المبادرة السلمية السعودية، والمبادرة السورية، واعتدال "حماس". هذا جديد، فقد كنا دائماً نحن الذين نمد أيدينا للسلام، وهم الذين يرفضونه. الأمر مغاير هذه المرة. 3- يقول عضو الكنيست "آريه الداد" إن الدعاوى العربية تنجح كثيراً في العالم، لأنها تسقط على أرض معادية للسامية... يلفون معاداة السامية القديمة بغلاف كراهية دولة إسرائيل. ليس من السلامة السياسية كراهية اليهود، لكن من السلامة السياسية كراهية الإسرائيليين ودولة إسرائيل. ويشارك "الداد" البروفيسور "عوز ألموج" في هذا الرأي، وهو خبير بعلم الاجتماع ومؤرخ في قسم دراسات أرض إسرائيل بجامعة حيفا، ويبحث في المجتمع والثقافة الإسرائيليين. يقول "ألموج" إن طبقة المثقفين في الدول الغربية مصابة بمعاداة السامية ومصابة أيضاً بتصورات ليبرالية، وهي لهذا تكره الماضي الاستعماري البريطاني، وتكره الغرب، وتشعر للسبب نفسه بكراهية الولايات المتحدة وإسرائيل. هذه الطبقة المثقفة كما يقول "ألموج"، تقود الإعلام الدولي، ولهذا، فإنه أحادي الطرف، وينقل إلى المواطن الغربي صورة مُحرفة وكاذبة. بعد ذكر هذه الأسباب الخاصة برؤية العالم للإسرائيليين، يذكر الكاتب سلوك الإسرائيليين أنفسهم كواحد من أهم من أسباب كراهية العالم لهم: 1- يبدو أن الإسرائيليين قد تعلموا كيف يتعايشون مع رئيس متهم بالاغتصاب، ووزير عدل متهم بالتحرش الجنسي، ووزيرة سياحة تكذب فيما يتعلق بألقابها الجامعية."إن العالم ينظر إلينا ويسأل من أين أتي هؤلاء البشر؟" 2- هناك شيء ما في الثقافة الإسرائيلية يجعل الإسرائيلي مستغِلاً في اللحظة التي يسافر فيها إلى أماكن بعيدة. يعلم الإسرائيليون في الهند كيف يجدون المعوقين والمقطعة أرجلهم، وأن يتراهنوا على أكبر مسافة يمكن جرّهم إليها في مِحفّة، أو على عدد الأمتار التي سينجحون في زحفها. في أميركا اللاتينية، الرياضة القومية الإسرائيلية هي محاولة استيضاح إلى أي مسافة يمكن الوصول بـ 25 سنتاً، وكم من الناس يمكن حشرهم في غرفة واحدة، وكم يوماً يستطيعون البقاء بلا طعام. عندما يُحتاج إلى استئجار مرشد سياحي لأربعة أيام، تصل القدرة الإسرائيلية على المساومة إلى درجة عالية. ومن أطرف الاقتراحات التي وردت في المقال لعلاج هذه المشكلة، ما قالته "أجينو عام نيني"، المطربة الإسرائيلية الأكثر نجاحاً خارج إسرائيل، فقد نادت هذه العبقرية بتناسي نتائج الاستطلاع تماماً. ولا أدري هل توافق كاتبة المقال معها أم لا؟ ففي مجال الحديث عن نفوذ المسلمين في أوروبا تقول:"لا نستطيع أن نحارب هذا، ومهما فعلت إسرائيل فلن يساعد ذلك. ولهذا أقول أنه يجب تناول نتائج استطلاع الرأي بتناسيه". المهم في كل هذا أنه لم يأت ذكر لإسرائيل باعتبارها دولة محتلة، باطشة تقيم جداراً عازلاً رغم حكم محكمة العدل الدولية، وتبني المستوطنات وتوسعها، وتدخل مخيمات اللاجئين وترتكب المذابح، وتهدم البيوت على رأس سكانها. ثمة إنكار، ولكنه- والحق يقال- ليس إنكاراً كاملاً، فالكاتبة مست هذه القضية عن بعد حين قالت "إن إسرائيل هي التي ترفض السلام الآن". ولكن لم يقع كل الإسرائيليين ضحية خريطتهم الإدراكية، فهناك من يعرف تماماً الأسباب الحقيقية لكراهية العالم لإسرائيل. فـ"داني روبنشتاين" في مقال له بـ"هآرتس" (15 يناير 2007)، يشير إلى مقطع صغير أذاعته إحدى القنوات الإسرائيلية، ظهرت فيه إحدى المستوطنات الصهاينة في الخليل، وهي تدفع وتشتم بفظاظة جيرانها أبناء إحدى العائلات الفلسطينية. ويرى الكاتب أن المثير للاهتمام في المقطع الذي بُث أنه عندما جرت أعمال الدفع والشتم، كان يوجد على مسافة أمتار معدودة جنود من الجيش الإسرائيلي، يشاهدون ما يجري دون أن يحركوا ساكناً". ثم يشير إلى أنه توجد مجموعة مراقبين دوليين في الخليل، نشروا بياناً قالوا فيه إن صور حادثة الاعتداء على العائلة الفلسطينية ليس فيها أي جديد، وأنهم ينشرون منذ سنين أنباء عن التنكيلات، والإضرار بالأملاك، ورشق الحجارة، وتحطيم زجاج النوافذ، وأنهم كثيراً ما توجهوا في الماضي للجيش والشرطة الإسرائيليين ولم يحصل شيء. وأن تقاريرهم ترفع إلى حكومة إسرائيل، وإلى السلطة الفلسطينية وإلى حكومات الدول الست التي جاء المراقبون منها (النرويج –إيطاليا -السويد -الدانمارك -سويسرا -تركيا)". والأطروحة المتضمنة أن وحشية المستوطنة الصهيونية وموافقة الشرطة الإسرائيلية الضمني على ذلك وعدم اكتراث المشاهد الإسرائيلي، كلها أسباب كافية لضمان كره العالم لإسرائيل، خاصة مع وجود المراقبين الدوليين. أرجو أن يتنبه الإعلام العربي إلى هذا التطور المهم، ويدرسه حتى يمكن توظيفه في حربنا ضد الجيب الاستيطاني الصهيوني، حتى ننزع عنهم دور الضحية الأزلية، فيدرك العالم حقيقة هذه الدولة الصهيونية، وحقيقة المقاومة الفلسطينية. والله أعلم