في متابعة قضية البحـَّارة البريطانيين الذين كانوا محتجزين في طهران بتهمة دخولهم إلى المياه الإقليمية الإيرانية، والذين أفرج عنهم يوم الأربعاء الماضي، نشعر وكأن الدول تتصرف أحياناً كالأفراد. منطق النكاية والاستفزاز والتحدي والتهديد، الذي قد يؤدي إلى التفريط بمصالح الجماعات. في النهاية الذين يحكمون الدول ويتخذون القرارات فيها وباسمها، أفراد مثل غيرهم. لكن مشهداً كالذي نتحدث عنه يدفعك إلى تجديد طرح السؤال المفتوح الدائم. ما هو الفرق إذاً بين منطق الدولة ومنطق الفرد؟ أو ما هو الفرق بين حسابات الدولة وحسابات الفرد؟ أو ما هو الفرق بين منطق دولة المؤسسات والقانون، ودولة الحاكم الواحد أو الحزب الواحد، الذي يقوده شخص واحد؟ وما هو الفــرق بين فرد وآخر إذاً؟ بريطانيا تقدم نفسها كدولة كبرى حليفة لأميركا، بل تقف في خانتها بالكامل في إطار السياسة التي اعتمدها توني بلير. هي في العراق دولة أخبر من أميركا، لكنها جزء من الخطر ذاته هناك. وهي في مواجهة إيران متشددة في التعاطي مع ملفها النووي مثل أميركا! بحـــّارتها اعتقلوا، هي تقول خارج المياه الإقليمية الإيرانية، ولم يطلقوا رصاصة واحدة على من جاء متجاوزاً حدوده لاعتقالهم وإهانتهم، ومن خلالهم إهانة دولتهم. وإيران تقول إن العملية تمت في نطاق مياهها، ومع ذلك الجنود لم يواجهوا. وبريطانيا نفت الرواية الإيرانية. التلفزيون الإيراني بث اعترافات للمحتجزين، وبريطانيا نفتها، بريطانيا العظمى ركضت تستنجد بمجلس الأمن لاستصدار بيان "يرفض فيه هذا العمل"! هذه هي حدود الحركة، ثم طلبت من الاتحاد الأوروبي"استنكار" هذا العمل! وهذه حدود أضيق! فأين العظمة في كل ذلك؟ وأين الهيبة والقوة والحق في الوقت ذاته؟ وإيران تحدّت مجدداً مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي، وانتقدت الأخير بقوة لأنه اتخذ موقفاً "قبل الاطلاع على الوقائع" كما قال المسؤولون الإيرانيون! هيبة بريطانيا في هذه الأزمة كانت على المحك. فمن التهديد، والرفض وطلب التأييد الدولي إلى الحديث عن قنوات اتصال دبلوماسية مع إيران لمعالجة القضية والموافقة على التهدئة. تراجع بريطاني، ومأزق في الداخل، وأزمة تواجه حكومة توني بلير. هل يعني هذا أن المشهد في المقلب الآخر كان معبراً عن تماسك إيراني وهدوء وعقلانية؟ بالتأكيد لا. فالتحدي كان في ذروته، والسفير الإيراني في موسكو تحدث عن محاكمة البحـّارة البريطانيين ومعاقبتهم لمخالفتهم القانون ثم تراجع عن أقواله، وطلاب "الباسيج" حاصروا السفارة البريطانية، وحاول بعضهم الاعتداء عليها، وتذكـّر كثيرون صورة محاصرة السفارة الأميركية في بدايات حكم الثورة! ثم تم تنفيس هذا الاحتقان، وكأن كل ما جرى كان نوعاً من تبادل الرسائل. بعد ذلك خرج عدد من المسؤولين الإيرانيين إلى التصعيد من خلال الحملة المنظمة ضد أميركا وبريطانيا ومجلس الأمن وأوروبا، مما عقـّد الموقف الإيراني مع العالم أكثر لكن أعطى صورة متشددة عن إيران. وإشارة إلى استعدادها للذهاب في التحدي حتى النهاية، إلى أن خرج الدكتور علي لاريجاني المفاوض مع دول العالم على الملف النووي ليقول: لا نريد تصعيداً، ولا مصلحة في المحاكمات، ونريد معالجة القضية عبر القنوات الدبلوماسية! قد يقول البعض: هذه هي دبلوماسية التشدد والمناورة وخلط الأوراق. ويقول بعض آخر هذا مظهر من مظاهر الإرباك والضياع! لكن في كل الحالات هذا المشهد يعبـِّر عن أزمة حقيقية بين دول كبرى، وعن أزمة قيادة هنا وهناك وأزمة عقل. فلا يستطيع أحد أن يبرر التهور هنا بـ"الشيطنة" أو المهارة أو البراعة الدبلوماسية وتكون النتيجة كارثة، كما لا يستطيع أحد أن يبرر رد الفعل المتهور هناك أيضاً بالقوة والاستعداد لمواجهة كل الاحتمالات بمنطقها! وفي هذا السياق -سياق "الشيطنة" واعتبارها مهارة دبلوماسية– تندرج خطوة إطلاق سراح البحارة البريطانيين مع كل ما رافقها من "فولكلور" إيراني وإيحاء في إطار تبادل الأدوار في الاحتجاز ثم في "التحرير" بين سوريا وإيران. نحن أمام مواجهة حقيقية. وملف البحــّارة هو جزء من ملف البحر. البحر الفاصل بين إيران والدول المجاورة. بحر النفط والثروة وبحر الثورة. نعم "الثورة الإيرانية" ترى نفسها تبحر في بحر كبير وتتقدم لتصل منه إلى بعض الصحارى، لأن فكرها وأيديولوجيتها وإمكاناتها المالية وعمقها المذهبي وانتصاراتها المباشرة أو غير المباشرة عبر قوى تتحالف معها أو تعتبر امتداداً لها، وضعف الآخرين يسمح لها بذلك. والقوى الدولية الأخرى تعتبر أنها كانت في ذروة "ثورتها" للتخلص من أنظمة "القمع" "والديكتاتورية" ولبناء ديمقراطية، وهي أيضاً تريد الثروة، وبالتالي كانت ترى نفسها متحركة في بحر من الأحلام ومندفعة في كل بحار العالم، لتدرك فعلياً أنها تغرق في بعض الرمال المتحركة هنا وفي بعض المواقع هناك! وليس ثمة من يراجع حساباً ويعيد تقويم مشروع أو درس خطوة ليعالج خطأ أو خطيئة أو ينقذ شعباً أو دولاً أو أمماً! نحن في مواجهة صعبة مفتوحة على كل الاحتمالات. وإذا كان بحر السياسة يستضيف سفناً وبوارج كبيرة، فإن هذه تخلو من القادة والبحـّارة الكبار، والبحر هذا يشتاق حتى في هيجانه إلى من يلاعب عواصفه وقد لا يجد أحداً! إن اللجوء إلى العناد والقوة والغرور لن يحل مشكلة، فكيف إذا كنا أمام هذه الحالة. إنها مسؤولية إيران أولاً في الحد من طموحاتها وإثارة مخاوف جيرانها من سياساتها وتمدداتها وتدخلاتها في شؤونهم الداخلية انطلاقاً من النظرية التي ذكرت، وفي اعتمادها خيار الهدوء والواقعية وتقدير ظروف واحترام حقوق الآخرين، وتقع أيضاً على أميركا وبريطانيا بشكل خاص، بالعودة إلى قراءة هادئة لأوضاع المنطقة والتفكير في الحلول السياسية الواقعية من فلسطين إلى العراق وإيران، آخذين بعين الاعتبار حقوق شعوب هذه المنطقة وتأكيد سيادة واستقلال وحرية دولها!