بدأ الآن الحلف الأوروبي الأميركي الصهيوني في التفكك بعد تشكيل حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعيين وزراء الخارجية والداخلية والمالية من المستقلين لإزاحة مبرر مقاطعة حركة "حماس". وأصبح موقف "الرباعية" أكثر تفهماً لحاجات الشعب الفلسطيني وتطلعاته لحياة كريمة. وبدأت البلاد الشمالية وفي مقدمتها النرويج بكسر هذا الحصار من خلال التعامل مع حكومة الوحدة الوطنية. فالسلطة الوطنية وليدة "أوسلو". وكانت روسيا من قبل قد كسرت الحصار بالتعامل مع "حماس". وهي الصديق التقليدي لحركات التحرر الوطني في العالم الثالث. فكيف تسترد أوروبا استقلالها عن الولايات المتحدة الأميركية، وتستعيد ثقتها بنفسها، وتسترد قيادتها التقليدية للعالم قبل بزوغ نجم الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية ووراثة أوروبا في السيطرة على مستعمراتها بل واحتلال أوروبا نفسها بزرع القواعد العسكرية في ربوعها خاصة في ألمانيا؟ كيف يعود إلى أوروبا وعيها المفقود باستقلالها الذي طالما دافعت عنه في فلسفاتها منذ ديكارت وكانط وفشته وباور وهوسرل وبرجسون خاصة في ألمانيا، وهي التي تتبع في سياستها الخارجية الانحياز إلى الولايات المتحدة؟ لقد سببت سياسة انحياز أوروبا إلى الولايات المتحدة خسارة كبيرة لأوروبا وأميركا ولباقي شعوب العالم. فقد زادت كراهية العالم الثالث لأوروبا بعد انضمام بعض دولها خاصة بريطانيا إلى قوات الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان، وبعد أن ظنت أن حركات التحرر الوطني قد نجحت في الحصول على الاستقلال، وتأسيس الدول الوطنية المستقلة. عادت أوروبا إلى إرثها الاستعماري بتحالفها مع الولايات المتحدة بعد أن ظنت الشعوب المستعمرة أنها تخلت عنه بعد هزيمة فرنسا في فيتنام والجزائر وانسحاب باقي القوات البريطانية والبرتغالية والأسبانية والهولندية والإيطالية من المستعمرات خارج حدودها. كما جعلت شعوب العالم الثالث تكره الغرب، ثقافة وحضارة ومدنية ومُثـُلاً وقيماً وتراثاً. ووحدت بين أوروبا الحضارية وأوروبا الاستعمارية الجديدة. وعادت التنوير الأوروبي، ومبادئ الثورة الفرنسية، الحرية والإخاء والمساواة، والذي طالما كان نموذجاً لفجر النهضة العربية في القرن التاسع عشر سواء في الإصلاح الديني عند الأفغاني أو في الفكر الليبرالي عند الطهطاوي أو في التيار العلمي العلماني عند شبلي شميل. ووقفت أوروبا عاجزة عن الدفاع عن إرثها التقليدي ومناطق نفوذها في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. وتنازلت عنه طواعية للقوة الأميركية الجديدة الصاعدة. وهي بتحالفها معها الآن تريد أن تسترد بعضاً من عنفوانها الإمبراطوري التقليدي منذ غزوها للهند والقضاء على إمبراطورية المغول. تلحق بذيل الولايات المتحدة بعد أن كانت في مقدمتها. لم تستطع أوروبا كبح جماح "المحافظين الجدد" الطامحين لإنشاء الإمبراطورية الأميركية الجديدة كـ"وعد إلهي" بإعطائها العالم كله تجاوزاً لـ"الوعد الإلهي" المزعوم الذي يعطي إسرائيل ليس فقط فلسطين بل أيضاً "إسرائيل الكبرى"، أي من النيل إلى الفرات. لم تستطع أوروبا ممثلة في أنظمتها السياسية وليس في شعوبها، تحسين صورة الغرب الأميركي، وهي تشارك معه جغرافياً في اسم الغرب، وأميركا تحارب الحركات الدينية في كل مكان بدعوى الإرهاب والعنف وكراهية الولايات المتحدة. متى تسترد أوروبا استقلالها الدفاعي، وتطالب بتفكيك القواعد العسكرية الأميركية من على أراضيها وسجونها السرية للمخطوفين السياسيين بدعوى القضاء على الإرهاب ومحاكمة الإرهابيين كما هو الحال في سجون جوانتانامو و"أبو غريب"؟ لقد انتهى الخطر الأحمر وراء الستار الحديدي الذي من أجله أقيمت هذه القواعد وحلف شمال الأطلسي بانتهاء الحرب الباردة، وسقوط الأنظمة الاشتراكية، واستتباب الأمر لعالم ذي قطب واحد، وعولمة جعلت العالم كله سوقاً لمجموعة الدول الثماني التي لا يستطيع أن ينافسها أحد مما أدى إلى احتكار معظم الإنتاج الصناعي الثقيل في العالم. إن أوروبا جغرافياً وسط العالم القديم. تقع في منطقة متوسطة بين أفريقيا جنوباً والبلاد الإسكندنافية شمالاً وروسيا شرقاً. وبين هذه الجهات الثلاث هناك اتصال أرضي بين أوروبا والشمال، وبين أوروبا والشرق، واتصال بحري عبر البحر الأبيض المتوسط جنوباً والذي لا يبعد شاطئه الشمالي في أسبانيا مثلاً عن شاطئه الجنوبي في المغرب أكثر من عشرين كيلومتراً في مضيق جبل طارق أو مائتي كيلومتر بين جزيرة جربة في تونس وجزيرة صقلية في جنوب إيطاليا. أما في الغرب فيفصل أوروبا عن الولايات المتحدة الأميركية أكثر من خمسة آلاف كيلومتر. يفصلها المحيط الأطلسي بأكمله. أوروبا وآسيا وأفريقيا في نصف الكرة الشرقي، وأميركا في نصف الكرة الغربي. فالأقرب إلى أوروبا جغرافياً الضفة الجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط وشرق الأورال في آسيا ابتداء من أوروبا الشرقية. أفريقيا وآسيا خاصرتان لأوروبا في الجنوب والشرق. ربط أوروبا بآسيا طريق الحرير، من الصين حتى البندقية. وربطت أوروبا بشمال أفريقيا فرنسا فيما وراء البحار، وبأفريقيا تجارة العبيد. وأوروبا تاريخياً وحضارياً على علاقة بمحيطها الإقليمي منذ آلاف السنين قبل الهجرات الأوروبية إلى العالم الجديد بعد كولومبوس منذ ما يزيد قليلاً على خمسة قرون. كانت اليونان القديمة على صلة دائمة بمصر كعبة العلم، وبالشام، أرض كنعان، وببابل وآشور وحضارات ما بين النهرين كما عرض مارتن رينال أخيراً في ما سماه "أثينا السوداء". والعلاقات بين فارس والهند وأوروبا منذ قديم الزمان حتى أن اللغات الأوروبية تسمى اللغات الهندية الأوروبية في مقابل اللغات السامية. كانت أوروبا في النهضة الحديثة في أفريقيا وآسيا نموذجاً للتحديث، في تركيا ألمانيا، وفي الهند وفي السودان واليمن والخليج بريطانيا. وفي المغرب العربي وسوريا ولبنان فرنسا. ولم تظهر أميركا في المنطقة العربية إلا بعد الثورات العربية الأخيرة في منتصف خمسينيات القرن الماضي، وفرض سياسة الأحلاف على القوى السياسية الجديدة التي مثلها الضباط الأحرار، "حلف بغداد"، "الحلف الإسلامي"، وسياسة المحاور. بدأت أميركا بإدانة العدوان الثلاثي على مصر، وإنذار إيزنهاور الشهير المتزامن مع الإنذار الروسي. ثم عادت الولايات المتحدة حركة التحرر العربي الممثلة في القومية العربية، وأيدت تأييداً مطلقاً إسرائيل وحروبها التوسعية حتى الآن. كانت لأوروبا رسالة حضارية في عصورها الحديثة، القضاء على الإقطاع والملكية والكنيسة ومحاكم التفتيش وكل رموز القهر والتسلط. واعتمدت على العقل لفهم قوانين الطبيعة التي يمثلها نيوتن، وفي قوانين المجتمع ونظرية العقد الاجتماعي التي يمثلها روسو. ودافعت عن قيم الحرية والديمقراطية. وفيها تم الإعلان الأول والثاني لحقوق الإنسان والمواطن. وقد جسدتها أيضاً مُثـُل التنوير: العقل والحرية والطبيعة والمساواة والتقدم والتحديث. وقد قامت الثورة الأميركية على هذه المثل كما عبر عنها الدستور الأميركي ووثيقة الاستقلال. أما أميركا فلم تكن لها منذ نشأتها رسالة. إنما قامت منذ البداية على الغزو والنهب والسلب واستئصال الشعوب الأصلية والعبودية والبحث عن الذهب. ومازالت صورة الأميركي في أذهان الناس، صورة "راعي البقر" والمسدسات وسرقة الأبقار واغتيال أصحابها. قارة زرع فيها الرجل الأبيض حضارته، وشعب بلا وعي تاريخي. لا يدرك إلا الآني. عقدته الشعوب ذات الحضارات العريقة مثل مصر والعراق والصين. أوروبا هي التي اكتشفت أميركا بداية من أسبانيا بعد أن غادرها المسلمون وسقطت غرناطة، بفضل خرائط العرب ونظرياتهم في كروية الأرض. والأوروبيون هم الذين عمروها وصنعوها وجعلوا منها القوة الأولى في العالم. فكيف يكون الأصل تابعاً للفرع، والأب تابعاً للابن؟ أميركا من صنع المهاجرين والمغامرين الأوروبيين، فكيف يكون الأوروبيون تابعين لما صنعوه بأيديهم؟ إن أميركا الأسطورة التي بنتها نفسها كما فعلت إسرائيل غير أميركا الواقع والحقيقة. أميركا القوية ينخر فيها الضعف، ضعف المبادئ والسياق اللاأخلاقي الذي يتم فيه استعمال القوة. أميركا بوتقة الانصهار تمارس أبشع أنواع التمييز العنصري طبقاً للون بين السود والملونين والبيض، وتقتل أنصار الحقوق المدنية والمساواة بين الأعراق مثل مارتن لوثر كينج. ويمارس أنصار "كلوكلس كلان" أبشع أنواع الاضطهاد العنصري باسم الدين وحماية له. تدافع عن الحرية وتقضي على الحريات العامة كما حدث في عصر مكارثي. تؤسس الديمقراطية وتتجسس على أحزاب المعارضة كما هو الحال في حادثة "ووترجيت" الشهيرة. تدافع عن قيم العالم الحر وتغزو أفغانستان والعراق. تهدد إيران وسوريا، وتعبث بمصالح لبنان والسودان. تحكمها المصالح ورجال الأعمال والشركات الكبرى، والمجمع الصناعي العسكري والهوس الإمبراطوري وجماعات الضغط والمنظمات الصهيونية. فما لأوروبا وهذا كله؟ ألا تستطيع أوروبا أن تفك الارتباط مع هذه القوة الغاشمة الجديدة وتعود إلى أصولها التاريخية والثقافية، وتسترد موقفها السياسي باعتبارها ميزان الثقل في العالم، وسطاً بين الشرق والغرب مثل الوطن العربي، لا يميل شرقاً أو غرباً؟ عندئذ يعود للعالم اتزانه، وللعقل حركته، وللحقيقة نبضها.