أدى احتجاز إيران للبحارة البريطانيين الخمسة عشر في الخليج إلى مفاقمة المأزق الذي يواجهه الغرب في التعامل مع تلك الدولة. وليس هناك شك في أن احتجاز إيران لخمسة عشر مواطناً بريطانياً كان يمثل مشكلة بريطانية في الأساس، إلا أن الرئيس الأميركي جورج بوش أصبح ضالعاً فيها عندما وجد نفسه يقوم بمؤازرة بريطانيا ومطالبة إيران بالإفراج عن البحَّارة الذين أسرتهم. وعلى رغم أنه قد تم الإفراج عن هؤلاء البحارة في نهاية المطاف، إلا أن التوترات مع إيران بشأن العديد من الملفات الأخرى، قد جعلت الحكومات في واشنطن ولندن وأماكن أخرى من العالم أكثر قلقاً من ذي قبل. الموضوع النووي يمثل أحد تلك الملفات المثيرة للقلق. فهناك اختلافات في الرؤى بشأن أنشطة إيران النووية تتكون منذ بعض الوقت، حيث يعتقد المسؤولون في واشنطن ولندن وعواصم أخرى أن إيران ماضية، وبمعدلات متسارعة، في بناء قدرات عسكرية نووية، ويطالبونها بالتوقف عن ذلك، في حين أن إيران تنكر من جانبها مثل هذه الاتهامات، وتصر على أن كل ما تقوم به هو تطوير قدراتها على إنتاج الطاقة النووية لأغراض سلمية وأنه لا أحد ينازعها الحق في ذلك. أما الأمم المتحدة فهي تشتغل على الموضوع الخاص بإعداد حزمة من العقوبات التي يمكن من خلالها الضغط على إيران حتى ترضخ للمطالب الغربية، مع علمها بأن الرئيس الإيراني "محمود أحمدي نجاد" يبدو راغباً في تحدي تلك العقوبات على رغم جوانب الضعف التي يعاني منها الاقتصاد الإيراني. هناك مجموعة أخرى من المشكلات مع إيران ظهرت كنتيجة للغزو الذي قادته أميركا للعراق واحتلالها لذلك البلد. فإطاحة صدام حسين، أزالت من الطريق أخطر أعداء إيران. وفي السنوات الأربع التي تلت إطاحته، نشطت إيران في تطوير علاقاتها مع حلفائها الشيعة سعياً لتعزيز مصالحها في العراق. وقد أدت الأنشطة الإيرانية في العراق إلى إثارة الرئيس بوش الذي عبَّر عن قلقه من التورط الإيراني في العراق، وهاجم إيران علناً لإقدامها على تزويد بعض العراقيين بالأسلحة التي تستخدم في قتل الجنود الأميركيين. ويقول المراقبون إن الرئيس بوش قد اضطر إلى شن هجوم لفظي على إيران بعد أن عجزت قواته المسلحة في العراق عن إيقاف الدعم الإيراني لبعض الأطراف هناك. ومما ساعد على تفاقم الأمور، ما تورط فيه الأميركيون مؤخراً من اعتقال لبعض الإيرانيين الذين يُزعم أنهم من المثيرين للشغب في الوقت الذي أصرَّت فيه إيران على أنهم دبلوماسيون كانوا يقومون بواجبهم، وأنه يجب أن يتم الإفراج عنهم فوراً. وليس من المعروف حتى الآن على وجه التحديد، لماذا أقدم الإيرانيون على احتجاز خمسة عشر عسكرياً بريطانياً. بعض التكهنات ذهبت إلى أن تلك العملية كانت عملية "مارقة" قام بها "الحرس الثوري" الإيراني الذي أرادت قياداته المتطرفة إظهار خشونتها في مواجهة الغرب، وأن القيادة السياسية الإيرانية وجدت نفسها مضطرة إلى تأييد هذه العملية. وهناك تكهن بأن إيران قد أقدمت على احتجاز هؤلاء البحارة حتى تبادلهم بالإيرانيين المحتجزين في العراق. وهناك تكهن ثالث يذهب إلى أن الولايات المتحدة الأميركية قد زادت من تواجدها البحري في الخليج، وأن الرئيس بوش قد ركز اهتمامه على إيران باعتبارها تهديداً، وأن السلطات الإيرانية أرادت أن تظهر استعدادها لتحدي أميركا واستعراض قوتها في المنطقة من خلال القبض على خمسة عشر جندياً بريطانياً. وعلى رغم كل تلك التكهنات فإن المراقبين الغربيين لم يتمكنوا من الاتفاق على حقيقة الدوافع التي تحرك القيادة الإيرانية، باستثناء القول بأن هناك انقسامات في الآراء في المستويات العليا في الحكومة الإيرانية بشأن المسار الذي يتعين اتخاذه في المواجهة مع الغرب. والمفارقة الساخرة في هذا السياق أن هناك انقسامات في الرأي أيضاً داخل واشنطن بشأن المسار الذي يتعين اتباعه في المواجهة مع إيران. فبعض الأميركيين يرون أن واشنطن يجب أن تكون مستعدة لمناقشة الموضوعات العالقة مع إيران، لأن ذلك قد يدفع الطرف الإيراني في النهاية إلى تلطيف موقفه بشأن الكثير من الموضوعات المعلقة التي يمكن أن تشمل الموضوع النووي ذاته. على أن المشكلة تكمن في أن الرئيس بوش يفضل المقاربة الصلبة في التعامل مع إيران، وهو ما يتضح بجلاء من خلال رفضه للاقتراح الذي قدمته لجنة "بيكر- هاملتون" في شهر نوفمبر الماضي بضرورة التفاوض مع إيران بشأن العراق وبشأن موضوعات أخرى عالقة. وقصارى ما فعله بوش في هذا الصدد، هو أنه سمح لبعض المسؤولين الأميركيين بالحديث مع مسؤولين إيرانيين في جلسة معد لها بعناية ومخصصة فقط للتعامل مع الموضوع العراقي، مع إعلانه أنه لن يدخل في أية مباحثات أخرى مع إيران قبل قبول الأخيرة لمطالب واشنطن بإيقاف برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم كشرط مسبق. في غضون ذلك تتردد في واشنطن تكهنات مؤداها أن الرئيس بوش، مدفوعاً في ذلك من بعض مستشاريه المتشددين ومن إسرائيل، يفكر في توجيه ضربة جوية ضد أهداف إيرانية. وليس هناك من شك في أن الاعتبارات الداخلية تمثل مأزقاً كبيراً بالنسبة لبوش، خصوصاً بعد أن انخفضت نسبة التأييد الشعبي إلى مستويات متدنية للغاية. علاوة على ذلك فإن الإخفاق الأميركي في العراق يجعل من المشكوك فيه أن يقدم الشعب الأميركي على تأييد أية عملية عسكرية ضد إيران (لا يزال الإيرانيون يتذكرون حتى الآن كيف قامت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية عام 1953 بالمساعدة في الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني الدكتور محمد مصدق من السلطة، ولذلك فإن لديهم هم الآخرون مظالم كثيرة قديمة يشعرون بوطأتها، وهو ما يعقد الجهود الرامية لتحقيق تسوية بين بلادهم والغرب). لذلك كله نقول إن كافة الخيارات المتاحة أمام بوش مُعقدة، وهو ما يجعل الرجل يراوح في مكانه، رغم النداءات المتعددة التي وجهها له منتقدوه بضرورة اتباع نهج جديد في التعامل مع إيران. وفي هذه المرحلة من الزمن، حيث لم يعد هناك سوى القليل من الأسرار التي يمكن إخفاؤها، فإنه لا يزال من غير الواضح ما هو المسار الذي سيتخذه بوش من أجل إحداث التغييرات التي يريد أن يراها في المسلك الإيراني، والذي لا يستطيع التحكم فيه بشكل كامل!