ما هو كُنه هذه القصة الجديدة التي أراد السيناتور "الديمقراطي" والمرشح الرئاسي السابق، بيل برادلي، أن يحكيها لكل فرد من أفراد الجمهور الأميركي، بل لكل فرد من أفراد الشعوب التي تشكل أميركا حاضرها ومستقبلها على نحو أو آخر، بما لها من ثقل وتأثير على مجريات الأحداث في العالم كله؟ في أنحاء شتى من الدول النامية بالذات، تلح أميركا، ولاسيما إدارة جورج بوش، على عملية الإصلاح السياسي، كشرط لازم للتعامل مع هذه الدولة أو تلك. بل لقد بلغ بها الأمر حد شن الحروب على الدول من أجل تحويل دول بعينها إلى الانفتاح والديمقراطية، على نحو ما نرى في العراق وأفغانستان، إلى جانب التلويح بعصا التغيير السياسي، لدول كثيرة أخرى، منها سوريا وإيران. لكن تتعذر قراءة هذه القصة الجديدة التي يحكيها السيناتور السابق برادلي، بدون عكس هذا الدفع الخارجي بمسار التحول الديمقراطي، إلى دفع داخلي، يستهدف إحداث إصلاحات سياسية جذرية، داخل أميركا نفسها، قبل أن تطالب بها الآخرين. ومن رأي الكاتب أن أميركا تمر بلحظة لابد من أن تتعلم فيها الدروس، وأن تجري مراجعة شاملة لمجمل نظامها السياسي، ولقيادتها وأجندتها، مع ضرورة مراجعة المواطنين الأميركيين أنفسهم لمواقفهم ولسلوكهم السياسي إزاء المشاركة الانتخابية والموقف من مختلف الحكومات والإدارات المتعاقبة. وبما أن التغيير لا يبدأ عادة إلا بممارسة النقد الذاتي أولاً، وبمراجعة كل شيء، فإن من رأي برادلي أن القصة التي كثيراً ما يجري تكرارها وترديدها عمن يكون الأميركيون، وما هي أميركا، لم تكن صحيحة البتة. ويضيف أن تصحيح تلك القصة القديمة البالية، إنما يتطلب إعادة النظر في السياسات والأحزاب الأميركية، بل وفي مفهوم المواطنة نفسه، ودوره الحاسم في تشكيل حاضر أميركا ومستقبلها. ومن جانب الكاتب، فإن الشعب الأميركي على أهبة الاستعداد لمعرفة الحقيقة وتقبلها، إلا أنه لطالما حرم منها، بفعل المناورات السياسية والتنافس القيادي، اللذين يعتمدان في الأساس على حجب الحقيقة وتمويهها. واعتماداً على خبرته السياسية الواسعة، فقد لاحظ الكاتب أن الحزب "الجمهوري" قد تمكن من ترسيخ بنى هرمية سياسية صلدة منذ سبعينيات القرن الماضي، قامت جميعها على قاعدة المال والأفكار والإعلام، بينما تمكن خصمه الحزب "الديمقراطي" من تشييد أهرامات شبيهة، إلا أنها اهتمت أكثر بإبراز الشخصيات القيادية الكاريزمية، في حركة البناء والصعود الحزبيين. لكن ولأسباب مختلفة هنا وهناك، فقد أخفق كل من الحزبين في التصدي لأكثر القضايا إلحاحاً، أي القضايا التي تواجهها الولايات المتحدة حالياً. على أن هذا التناول الموضوعي لواقع الممارسة السياسية الأميركية، لم يمنع المؤلف من توجيه انتقاداته اللاذعة لأيديولوجية "المحافظين الجدد" التي قامت عليها سياسات الرئيس بوش الحالية، في مقابل رسم الخطوط العامة والعريضة لما يراه برادلي بديلاً للسياسات المتبعة الآن. ومن رأيه أيضاً أن هذه السياسات تعد المسؤول الأول عن الهاوية التي انحدرت إليها أميركا داخلياً وخارجياً. ويتلخص البرنامج الليبرالي "الديمقراطي" الذي يقترحه برادلي في: تبني سياسات خارجية تعددية، تحترم الإرادة الدولية، وتقوم على قاعدة التعاون المشترك مع الحلفاء وبقية دول العالم الأخرى. ومن الضرورة بمكان، أن تعود أميركا إلى تقاليد العمل الدبلوماسي التعددي التي أرستها هي وقادت دول العالم الأخرى باتجاهها، منذ دورها الرائد في إنشاء الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات والمؤسسات الدولية. أما في الجانبين الاقتصادي والخدمي، فيقترح المؤلف خفض معدل الديون الخارجية المتراكمة، إلى جانب تحسين -وليس تخصيص- نظام الضمان الاجتماعي، مع إصلاح نظام المعاشات في القطاع الخاص، وكذلك تحسين مستوى الرعاية الصحية والقطاع التعليمي. وإذا كانت حقائق الحياة السياسية، تشير الآن إلى صعود نجم "الديمقراطيين" في مقابل غروب شمس "الجمهوريين"، فإن إصلاح الحياة السياسية الأميركية، إنما يقتضي أن يهجر "الديمقراطيون" تعويلهم المستمر على "نجومية" والقدرات الكاريزمية للأفراد على نحو ما يفعلونه اليوم مع مرشحيهم الرئاسيين، هيلاري كلينتون وباراك أوباما، وأن يتجهوا بدلاً من ذلك إلى تطوير فلسفة حكم متماسكة، والكد في بناء الحزب من قواعده الشعبية، وليس من قمة هرمه السياسي. ويتطلب هذا الواجب الأخير، التعويل على دور الشعب في العملية السياسية، بما في ذلك إعداده وتأهيله بما يكفي، لممارسة دوره الانتخابي والرقابي على أداء الجهاز التنفيذي للحكومة. ثم إنه يتعذر إصلاح الممارسة السياسية عملياً، ما لم ترتفع نسبة المشاركة الشعبية في الانتخابات العامة، سواء كانت انتخابات الكونجرس، أم الانتخابات الرئاسية، من نسبة الـ50 في المئة الحالية، إلى 80 في المئة مثلاً. فلو حدث ارتقاء كهذا في مستوى المشاركة الشعبية، فإن ذلك يَعِدُ بحدوث تحول جذري في الممارسة السياسية الأميركية بمجملها. والدليل أن الصلف السياسي الذي تمارسه إدارة "المحافظين الجدد" اليوم، يعود في الأصل إلى غياب الرقابة والضغط الشعبيين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار، مجمل الملابسات الانتخابية التي أحاطت بصعود الرئيس بوش نفسه إلى المنصب الرئاسي إثر انتخابات عام 2000. يذكر أن بيل برادلي كان قد انتخب لعضوية مجلس الشيوخ عن ولاية نيوجيرسي عام 1978 لأول مرة، ثم أعيد انتخابه مرة أخرى عام 1990. أما في مجال التأليف والكتابة، فقد صدرت له خمسة كتب قبل كتابه الحالي، فضلاً عن دوره في صياغة الكثير من القوانين والتشريعات، بما فيها قانون الضرائب لعام 1986. ومن أشهر مؤلفاته السابقة كتابا "الزمن الحاضر" و"الزمن الماضي". عبد الجبار عبد الله الكتاب: القصة الأميركية الجديدة المؤلف: بيل برادلي الناشر: دار راندوم للطباعة والنشر تاريخ النشر: 2007