تحول الحديث الأميركي الذي انصب على "استراتيجية الاستقرار" في العراق و"تعزيز القوات الأميركية في قواعد دائمة"، إلى البحث عن كيفية الخروج من وحل العراق، خاصة بعد أن ازدادت الخسائر البشرية والمادية الأميركية حين غيرت المقاومة العراقية (وأيضاً القوى الإرهابية ذات الأهداف والتكتيكات المختلفة) معالم الساحة العراقية. وبعد أربع سنوات من الضياع الأميركي في العراق، فاقت تكلفته الاقتصادية مبلغ 400 مليار دولار، من المتوقع أن تصل التكلفة نهاية العام الجاري إلى 500 مليار دولار، فيما كانت الإدارة الأميركية قد قدرت ميزانية الحرب بنحو 75 مليار دولار في البداية الأولى. وفي تحدٍّ داخلي لسياسة الرئيس الأميركي جورج بوش إزاء العراق، وافق الكونجرس على مشروع قانون يقضي بسحب جميع القوات المقاتلة من العراق بحلول الأول من سبتمبر 2008، بعد قراره السابق تخويل الرئيس صلاحية شن الغزو بداية عام 2003. غير أن الأخير انتقد بشدة الموافقة على مشروع القانون الأخير، وهدد باستخدام حق النقض "الفيتو" للحيلولة دون تحوله إلى قانون ملزم. وفي ظل استمرار الخسائر البشرية في صفوف القوات الأميركية، تراجع تأييد الرأي العام الأميركي للحرب بسرعة كبيرة. ففي الذكرى الرابعة للغزو، شاركت أكثر من 150 مدينة أميركية في تظاهرة كبيرة جابت شوارع نيويورك مطالبة بسرعة سحب القوات الأميركية من العراق، وبدأت وسائل الإعلام تركز على الفوضى التي يشهدها ذلك البلد، وعمليات القتل المستمر على الهوية والخراب الذي آلَ إليه الحال فيه، وتبخر الوعود الأميركية بتحويله إلى "واحة من الديمقراطية والرخاء الاقتصادي"! "الهروب من المأزق: لماذا يجب على الولايات المتحدة الخروج من العراق؟"، عنوان تقرير أعده "تيد غالين كاربينتر" نائب رئيس "معهد كاتو لدراسات الدفاع والسياسة الخارجية". ولقد تم عرض ذلك التقرير أمام لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية في شهر يناير الماضي، حيث ارتسمت فيه صورة كئيبة للوضع في العراق بعد أن بين "كاربينتر" ضرورة رحيل القوات الأميركية من بلاد الرافدين. وفي تقريره، سخر الكاتب من مخاوف أنصار الحرب في حال انسحاب القوات الأميركية، خاصة لجهة تمكين تنظيم "القاعدة" وتحول العراق إلى قاعدة لشن هجمات على الولايات المتحدة، مشيراً إلى ما كان قد أكده "تقرير بيكر- هاملتون" من أن عدد المقاتلين الأجانب في العراق يبلغ 1300 مقاتل فقط، ومن الصعب تخيل أن باستطاعة هؤلاء الاستيلاء على بلد يبلغ عدد سكانه 26 مليون نسمة، فضلاً عن كونهم "لا يحظون بدعم واسع". ومع أن الانسحاب السريع من العراق ربما يساهم في نقل الفوضى إلى خارج الحدود (خاصة مع التدخلات الإيرانية الواضحة)، فإن البقاء الأميركي مع تحمل الخسائر الكبيرة هو، كما يقول كاربينتر، "تأجيل للهزيمة"، خاصة وأن مستويات قدرات الجيش الأميركي برأيه بدأت تنخفض مع "عدم تحقيق معدلات التجنيد المرجوة، حتى أن أصحاب السجل الإجرامي والأمراض العقلية سمح لهم بالالتحاق بالجيش، ناهيك عن أن الانسحاب الآن سيكون أقل ضرراً من الانسحاب لاحقاً، حينما تكون الخسائر البشرية والمادية وانهيار المصداقية أعظم بكثير". ومن هنا أعلن الكاتب اتفاقه مع ما خلص إليه "تقرير بيكر- هاملتون" من استحالة معالجة الأوضاع العراقية عسكرياً، حيث أكد على "أن قدرة أميركا على حل الأزمة هناك تتقلص"، داعياً إلى "بذل مزيد من الجهود السياسية والدبلوماسية في العراق والمنطقة، وضرورة تغيير المهمة الأساسية للقوات الأميركية في العراق، بما يمكِّن الولايات المتحدة من البدء في سحب القوات المقاتلة بشكل معقول". ورغم كل ما سبق، ما زال هناك من ينادي بضرورة عدم الانسحاب من العراق بل والبقاء فيه وفق ما تحتاجه القوات الأميركية من وقت حتى "تحقيق النصر". فعلى سبيل المثال وليس الحصر، قدم "مايكل روبن" الباحث في "معهد أميركان إنتربرايز" ورقة بعنوان: "لماذا يجب ألا نغادر العراق؟"، قدمها في جلسة نقاش بُعيد إعلان الرئيس بوش عن استراتيجيته الجديدة في العراق، وانتقد فيها توصيات لجنة "بيكر - هاملتون" الداعية إلى تغيير السياسة الأميركية القائمة في ذلك البلد، والانخراط في التعامل مع سوريا وإيران وتحديد عام 2008 كموعد مفترض لبداية سحب القوات الأميركية. ويرى "روبن" أنه طالما أن من أسماهم "المتشددين" في الشرق الأوسط يلومون الولايات المتحدة على دعم الأنظمة الديكتاتورية خوفاً من وصولهم هم إلى السلطة، وطالما أن الأنظمة الديكتاتورية تسعى لإقناع الغرب بأنها تسدي له معروفاً بالسيطرة على الحركات الراديكالية وتلقي باللائمة على الولايات المتحدة بوصول هؤلاء إلى الحكم من خلال عمليات الإصلاح والديمقراطية... فإن قوى "التحالف" لن تحقق نجاحاً أو قبولاً وبالتالي من الأفضل استمرار بوش في استراتيجيته إلى النهاية. بل يخلص "روبن" إلى أن أسوأ سيناريو يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة هو التعجيل بالانسحاب، قائلاً إن "انسحاباً أثناء استمرار العنف وإطلاق النار، لن يعني إلا الهزيمة". لقد بات واضحاً أن الاحتلال الأميركي للعراق ومهمة نشر الديمقراطية قد فشلا، وهو ما يرفض الاعتراف به مؤيدو الحرب. ولأن الولايات المتحدة قد سقطت في المستنقع، فإن قرار الانسحاب لدولة عظمى متكبِّرة مثلها لن يكون بهذه السهولة، ويتطلب اعترافاً بالفشل في تحقيق ما ادعته من أهداف تتركز على صنع عراق مستقر وموحد وديمقراطي يكون نموذجاً للسلام في الشرق الأوسط. فهل بات الرئيس بوش يلمح إلى إمكانية الانسحاب حين قال، عقب هزيمة حزبه في انتخابات الكونجرس النصفية الأخيرة، إن "كل الاحتمالات مفتوحة"، وهو الذي كان يردد دائماً إصراره على عدم الانسحاب من العراق، باعتبار أن وجود القوات الأميركية هناك هو "خط الدفاع الأول" عن واشنطن ونيويورك ضد الإرهاب؟! على أي حال، تتلخص إشكالية الأميركيين في الخروج من العراق، في أنهم دخلوه دون إعداد أي استراتيجية للخروج منه، وتعاملوا مع ورطتهم بنظرة فوقية ترفض الاعتراف بالهزيمة والفشل. لكن بعيداً عن صوابية أو خطأ أي من الطرحين، الانسحاب من العراق أو عدمه، فإن الطامة الكبرى تتجلى في كون الإدارة الأميركية تركز على حل لمشاكلها ولمشاكل احتلالها للعراق، متجاهلة البحث عن كيفية حل المشكلة العراقية التي تسببت فيها حيث أضافت نهراً جديداً إلى بلاد الرافدين هو نهر الدم الطائفي والعرقي. وليس ثمة أبلغ مما قاله "زبيجنيو بريجنسكي"، مستشار الأمن القومي الأميركي الأسبق، من أن "الحرب على العراق لم تعد حرباً من أجل المصلحة الوطنية، وإنما تحولت إلى جهد لإشباع الغطرسة الرئاسية في واشنطن، وإن استمرارها دون نهاية ربما يوسع نطاقها، فتجد أميركا نفسها في صراع يشمل إيران والعراق وأفغانستان وباكستان في آن واحد".