من منظور يقع خارج كثير من المقاربات السوسيوتاريخية، كما ينأى بنفسه أيضاً عن أطروحات التاريخ الثقافي أو محاورة التراث كـ"بنية" ذهنية أو بوصفه "تكوينا" عقلياً... يحاول فيصل جلول في كتابه "مصر بعيون الفرنسيس"، أن يتجاوز التخوم الاعتيادية ليقف على أصول الثقافة السياسية العربية انطلاقاً من دور ومكانة مصر التي شكلت قطباً جاذباً للعالم العربي خلال القرون الثلاثة الماضية. وقد ضمّن كتابه نصوصاً فرنسية، سعى إلى مساءلتها ومساءلة الذات عبر نصوص أخرى نقدية موازية لها. في القسم الأول من الكتاب يناقش جلول عناصر الخضوع والممانعة في الثقافة السياسية العربية، انطلاقاً من المركز المصري، وباعتبار أن تخلف العرب وتقدم غيرهم يكمن في الثقافة السياسية. ففي أواخر القرن الثامن عشر، قاد نابليون بونابرت حملة على مصر، ورغم فشل شقها العسكري فإن شقها الثقافي نجح في تأسيس وعي هرمي لدى العرب تقف على رأسه الحضارة الغربية المظفرة. وهنا يلاحظ المؤلف أنه مع الحملة المذكورة نشأ ما يعرف بعلم الفرعونيات الذي انتظم أثره في مصر عبر هرمية حضارية مؤداها أن "المصريين كانوا عظماء فقط قبل الإسلام، وأن الحضارة العربية الإسلامية عابرة في بلادهم، وأنهم يندرجون في سلم حضاري قمته البعيدة فرعونية وقمته القريبة غربية، وتقع في أسفله الحضارة الإسلامية". ويستهل الكتاب قسمه الثاني بفصل عنوانه: "غزوة السيف وغزوة القلم"، متسائلاً: لماذا اجتاح بونابارت مصر؟ فيشرح ظروف "غزوة السيف" وسقوط مصر سريعاً في قبضة الفرنسيين، وما أعقبه من مواجهات مع الشعب وعلماء الأزهر ومن معارك حربية مع العثمانيين والبريطانيين، أجبرت نابليون على الهرب خفية تاركاً قيادة جيشه للجنرال كليبر الذي سيقتل بخنجر الأزهري سليمان الحلبي، ليخلفه الجنرال مينو الذي وقع استسلاماً مهيناً مع البريطانيين. أما "غزوة القلم" فتشير إلى جيش المثقفين الذي اصطحبه بونابرت معه، كأول فاتح عسكري يفعل ذلك. وهنا يستنبط جلول أهداف الحملة من نص لجان تولار الذي يرى أن بونابرت سعى من ذلك إلى أن يثبت للمصريين أنهم ينتمون إلى حضارة خليقة بالهزيمة لأنها تقع في مرتبة أدنى من الحضارة الغربية، وأن المطلوب هو البناء على صورة هذه الحضارة وليس على صورة الحضارة العربية الإسلامية. هذا إضافة إلى الوجه الفرعوني للحملة، أي إظهار الحضارة الإسلامية التي ينتمي إليها أهل مصر كحضارة متخلفة وضئيلة بالقياس إلى حضارتين مجيدتين؛ واحدة ساحقة في قدمها والثانية حديثة ومنتصرة بتقنيات يبرهنها العقل. وحول حريق القاهرة الذي اندلع في يناير 1952، ملتهماً مئات البيوت والمباني التي كان يشغلها الأوروبيون أو يترددون عليها، والذي ما برح فاعله مجهولاً، يناقش جلول بعض الفرضيات المتداولة في هذا الموضوع، ليصل إلى أن "فرضية الأطراف المتعددة" هي الأقرب إلى الواقع. ثم يقدم نصاً يمثل شهادة مباشرة من موقع الحريق، ينطوي على نظرة غير محايدة لكاتبه جورج مينان الذي سجل تلك اللحظة الحاسمة من تاريخ مصر وفق نظرة غربية تمتزج فيها المشاعر الخاصة والانتماء القومي والخيال الخصب! وباختصار فإن مينان يجزم بأن الحرائق كان يشعلها كوماندوس بوساطة صفائح البنزين، وأن حرائق أخرى أشعلت عن طريق مشعل أوكسيدريكي. وفي محطة أخرى يتناول الكتاب "حملة السويس: الأسباب والنتائج"، أي الحرب التي شنتها كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل اثر قرار أصدره عبدالناصر بتأميم قناة السويس لتغطية نفقات سد أسوان، والذي عارضته لندن وواشنطن مشترطتين امتناع ناصر عن شراء الأسلحة السوفييتية. شكلت أزمة السويس منعطفاً حاسماً في تاريخ الشرق الأوسط والعالم، فقد تحول عبدالناصر إلى زعيم للأمة العربية بلا منازع، وتعزز نهوض العالم الثالث، وكانت خسارة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية لتلك المعركة سبباً في تعجيل انهيارهما معاً وصعود القطب الأميركي. وعن الدور الفرنسي في تلك الحرب، يتحفنا المؤلف بالنص الكامل لندوة اشترك فيها خمسة مسؤولين فرنسيين كانوا على صلة مباشرة بما حدث؛ هم وزيرا الدفاع والخارجية في حينه، ومستشار وزير الدفاع، وسفير فرنسا في القاهرة، وقائد فرقة المظليين الفرنسيين التي أنزلت في السويس. وقد تحدث الخمسة عن أشكال مشاركتهم في الحدث وأذاعوا أسراراً من تلك المرحلة ولم يترددوا في إظهار عواطفهم الشخصية تجاه التفاصيل. وحول هزيمة يونيو 1967 يتساءل الكاتب: "نكسة أم نهاية المطاف"؟ ثم يعرض في خطوط مكثفة سيرورة سيناريو الكارثة، وحجم انعكاسها في المخيلة العربية عموماً ولدى النخبة خصوصاً. كما يطالعنا بنص للصحافي الفرنسي- اليهودي والمصري الأصل- أريك رولو، ينقل فيه شهادته على الهزيمة من القاهرة، ومشاعر المصريين الذين غضبوا من موافقة قيادتهم على قرار وقف إطلاق النار. لكن هؤلاء أنفسهم سيحملون عبدالناصر على التراجع عن استقالته، وبالتالي مواصلة القتال الذي أخذ شكل حرب استنزاف. وفي سيرة لعبدالناصر (الأمل العروبي)، كتب الصحفي والمستشرق الفرنسي جان لاكوتير في جريدة "لوموند" يوم 30/9/1970، ما يلي: "عبدالناصر رجل الحوار والبحث والتساؤل، سحر زائريه المهمين واستطاع أن يرعش حشوداً كبيرة وأن يجتاز الكثير من الأزمات، لكنه فشل أخيراً في مهمة أساسية: تلك القاضية ببناء المؤسسة، لذا لا نرى بعده حزباً يليق بهذا الاسم ولا خلافة واضحة ومحددة". وربما يشير جلول بتلك العبارة على لسان "لاكوتير"، إلى حال الثقافة السياسية في العالم العربي، أي البؤس الذي يكرسه غياب المؤسسات والآليات المؤسسية! لذلك حين غاب عبدالناصر "كفت مصر عن دور القطب الجاذب للعالم العربي"، فأصاب العرب من جراء فراغ المركز ما أصابهم! محمد ولد المنى الكتاب: مصر بعيون الفرنسيس المؤلف: فيصل جلول الناشر: الدار العربية للعلوم تاريخ النشر: 2007