في بعض الأزمات الدولية الكبرى، يكون الصراع بين طرفيها أو أطرافها قابلاً لأن يحمل أزمات أصغر أو نزاعات فرعية يلدها تباعاً. وقد يكون لكل منها ما يميزها، وربما ما تتفرد به. ولكنها كلها تندرج في السياق العام للأزمة الأكبر. ويفرز كل منها تداعياته التي قد يفاقم بعضها التوتر الذي تنطوي عليه هذه الأزمة الأصل، أو قد يحد بعضها الآخر من الاحتقان فيها. وتصنع الأزمات الأصغر أثرها التصعيدي حين تجعل أحد الطرفين أو كليهما في موضع شديد الحرج أو تدفع بالأزمة الأكبر في الطريق المسدود الذي يستحيل فيه إيجاد مخرج، الأمر الذي قد يجعل الخيار العسكري وحيداً بالنسبة إلى هذا الطرف أو ذاك. أما الأثر المهدئ الذي يمكن أن يحدثه بعض الأزمات الأصغر في مسار الأزمة الأكبر، فيظهر حين يستخلص أحد طرفيها أو كلاهما منها ما يفيد أن الخسارة تفوق المكسب في حالة الاتجاه إلى مزيد من التصعيد. ولذلك فالسؤال المحوري الذي تثيره أزمة البحّارة البريطانيين الذين احتجزتهم قوة إيرانية في شمال الخليج العربي يوم الثالث والعشرين من مارس الماضي، قبل أن يعلن الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بشكل مفاجيء إطلاق سراحهم يوم أمس الأربعاء، هو عن نوع الأثر الذي كان لها أن تحدثه في مسار أزمة البرنامج النووي الإيراني، في وقت يبدو أن حلقاتها تزداد استحكاماً. فهذه هي الأزمة الكبرى التي جاء احتجاز البحاّرة البريطانيين كأزمة صغيرة أو فرعية في سياقها. وأزمة البحّارة ليست الأولى من هذا النوع، ولن تكون الأخيرة. ولكن تكمن أهميتها الخاصة في أنها قد تكون نقطة تحول أساسية باتجاه تصعيد أكثر حدة في أزمة البرنامج النووي الإيراني، بخلاف ما سعى إليه الحرس الثوري الإيراني الذي تتوفر شواهد أكيدة على أنه هو الذي وقف وراءها تدبيراً وتنفيذاً. والهدف الذي تبتغيه قيادة هذا الحرس هو توجيه رسالة وخلق تفاعلات جديدة يمكن أن يدفعا باتجاه الحد من التصعيد الأميركي- الأوروبي، وليس الرد على هذا التصعيد بمثله, وذلك بخلاف ما يذهب إليه بعض المراقبين الذين يبالغون في تقدير ما يمكن أن يكون للحرس الثوري من مصالح خاصة متمايزاً عن غيره من القوى ذات النفوذ في داخل نظام الحكم الإيراني. ففي هذا النوع من النظم، يكتسب بعض الأجهزة نفوذاً قوياً يصبح الحفاظ عليه ودعمه، بل وزيادته أحياناً، هدفاً رئيسياً لكل جهاز ينطوي على مصلحة خاصة به قد لا تتطابق كلياً مع مصلحة الدولة في لحظة معينة. وربما تعلو عليها في لحظة أخرى. ونظراً لأن الحرس الثوري الإيراني هو أحد الفاعلين الأساسيين، إن لم يكن هو الفاعل الأول، في المشروع النووي، فقد أصبح هدفاً رئيسياً للعقوبات التي فُرضت على طهران من خلال مجلس الأمن في قراريه اللذين صدرا في 23 ديسمبر 2006 ثم في 24 مارس الماضي. فقادته هم المستهدفون بالأساس من الإجراءين المتعلقين بتجميد الحسابات وحظر السفر، إضافة إلى قادة "فيلق القدس" و"الباسيج" والقوات البرية والبحرية. ولعل هذا هو ما دفع مراقبين غربيين إلى اعتبار عملية احتجاز البحّارة البريطانيين رداً على التصعيد الغربي بمثله, على نحو يفهم منه أن الحرس الثوري يدفع الأزمة الأكبر إلى حافة الهاوية انطلاقاً من مصلحته كجهاز ذي نفوذ هائل في الدولة وبغض النظر عن مصالح الدولة نفسها. وهذا التحليل جائز نظرياً في الدول التي تحكمها نظم تعتمد بشكل مفرط على أجهزة أمنية وعسكرية متعددة ومتنوعة مثل إيران. فمن الجائز أن تتنامى مصلحة أحد أو بعض هذه الأجهزة إلى حد يطغي على المصالح الوطنية. غير أن هذا لا ينطبق على حالة الحرس الثوري الإيراني في أزمة احتجاز البحّارة البريطانيين وعلاقتها بأزمة البرنامج النووي، رغم أن نفوذه الهائل يجعل له مصلحة متميزة ومتمايزة عن المصالح الإيرانية العامة. فقد أراد هذا الجهاز أن يوجه رسالة مؤداها أن التصعيد ضد إيران مكلف أكثر مما سعى إلى الرد على هذا التصعيد بمثله. وهو يقول لمن يعنيهم الأمر، وليس فقط لبريطانيا، إن مصالحهم في الخليج ستكون مهددة جدياً في حالة إصرارهم على مواصلة التصعيد. كما أنه يسعى إلى خلق استياء لدى قطاعات من الرأي العام البريطاني تجاه الولايات المتحدة عبر المطالبة بمبادلة البحّارة الذين احتجزهم بالإيرانيين الذين اعتقلتهم القوات الأميركية في أربيل مطلع العام الجاري. فلم يكن الأمر في حاجة إلى حدس ولا إلى قدرة عالية على قراءة السياسة الأميركية كي نتوقع أن ترفض واشنطن مثل هذه المبادلة. وهذا هو ما حدث بالفعل، إذ أعلن الرئيس الأميركي شخصياً أن المبادلة غير واردة، وأن إيران ملزمة بإطلاق البريطانيين لعدم وجود سبب قانوني لاحتجازهم لأن اعتقالهم حدث في المياه الإقليمية العراقية، بخلاف ما تقوله إيران وهو أنهم كانوا في داخل مياهها. وهنا تحديداً، أي في طلب مثل هذه المقايضة، نجد ما يعبر عن مصلحة الحرس الثوري الخاصة، لأن الإيرانيين الخمسة الذين اعتقلتهم القوات الأميركية في شمال العراق هم من عناصره رغم وجودهم في مقر مكتب ارتباط فتحته إيران في أربيل لتحويله إلى قنصلية لها بعد إنهاء الإجراءات القانونية اللازمة لذلك. وعلى رأس أولئك المعتقلين الخمسة ضابط كبير هو العميد تشيذري قائد عمليات "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري في العراق. ولا يطمح مدبرو اختطاف البحّارة البريطانيين بالطبع إلى إتمام مقايضتهم بعناصر الحرس الثوري المعتقلين لدى القوات الأميركية. فهذا أمر غير منطقي ويصعب تصور أن يكون ضمن أهداف عملية الاختطاف. فما يسعون إليه، فضلاً عن محاولة إثارة البريطانيين ضد واشنطن، هو رفع معنويات عناصر الحرس الثوري العاملين في العراق عبر توجيه رسالة تشجيع إليهم. ففي مصلحة إيران الدولة وليس فقط مصلحة الحرس الثوري، أن تشحذ حماس عناصرها المتغلغلة في داخل العراق وتثبّت أقدامهم في مواجهة القوات الأميركية التي تسعى إلى قطع أرجلهم منذ خطاب "حالة الاتحاد" الأخير الذي شن فيه الرئيس بوش أعنف حملة ضد الوجود الإيراني في العراق. فلهذا الوجود دور معتبر في خطط الرد الإيراني على أي تصعيد عسكري أميركي. ولذلك يندرج الحفاظ عليه ضمن مصلحة الدولة وليس فقط مصلحة الحرس الثوري. ولا ترتبط هذه المصلحة فقط باحتمال تعرض إيران إلى هجوم عسكري. فالوجود في العراق مكسب استراتيجي لإيران في كل الأحوال، لأنه أحد المداخل الرئيسية لتوسيع نفوذها في المنطقة، وتحقيق مشروعها الإقليمي. فالهدف الاستراتيجي لإيران، والذي يقوم الحرس الثوري بالدور الرئيسي في السعي إلى إنجازه، هو أن تصبح الدولة الإقليمية العظمى. وبرنامجها النووي هو أحد أهم ركائز مشروعها الإقليمي. ولذلك فهي تريد أن تفلت به بدون حرب قد تلحق ضرراً فادحاً، ليس فقط به، ولكن أيضاً بمشروعها الإقليمي ككل. ولما كان الحرس الثوري هو صاحب الدور الأكبر في الإصرار على مواصلة البرنامج النووي، يصبح في الحفاظ على هذا البرنامج والإفلات به سلمياً مصلحة أكيدة له، كما للدولة الإيرانية. ولهذا كله، فهو لا يبتغي من وراء عملية البحّارة البريطانيين مجرد تصعيد في مواجهة تصعيد على طريقة صدام حسين، والتي ثبت للقاصي والداني كم كانت حمقاء. فالهدف من هذه العملية هو، على العكس، خلق أزمة فرعية يطمح من ورائها إلى إظهار أن التصعيد مكلف للجميع، وليس فقط لإيران. غير أن ما يمكن أن تقود إليه هذه الأزمة قد يكون مغايراً لما استهدفه من خلقوها، وربما يكون معاكساً فتدور الدائرة عليهم. ومن ثم لم يكن قرار إطلاق سراح البحارة مفاجئاً. ولذلك يقضي التخطيط الاستراتيجي السليم عند خلق هذا النوع من الأزمات الفرعية في سياق أزمة كبرى قابلة للاشتعال بأن يكون هناك استعداد، للتراجع في اللحظة التي يبدو أنها لن تقف عند حافة الهاوية, وإنما ستنزلق إلى هاوية سحيقة بالفعل. وهذا، تحديداً، ما فعلته طهران من خلال قرارها الأخير.