تكون الولايات المتحدة الأميركية حالمة إذا ما اعتقدت أن الذاكرة اليابانية، عبر القرون القادمة، ستنسى ما فعلته أميركا بمدن اليابان التي دكّتها بالقنابل الذريّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّة! إن الأطفال المشوّهين الذين سيولدون جيلاً بعد جيل، وضحايا أمراض السرطان المختلفة... سيتكفلون بتجديد الذاكرة اليابانية تلك. وفي بلاد العرب والمسلمين ستكون هناك ذاكرة أخرى عندما تنجلي مستقبلاً كل الحقائق المحيطة باستعمال قنابل وصواريخ اليورانيوم المستنفد في أفغانستان والعراق ولبنان. ولن يجدي الصّمت الذي يتم فرضه الآن على هذا الموضوع في الوصول يوماً ما إلى الحقيقة كاملة. يكفي أن يراجع الإنسان الأدبيات والتقارير المنشورة على شبكات الإنترنت بشأن استعمال اليورانيوم المستنفد من قبل القوات الأميركية والإسرائيلية، وإلى حدّ أقل من قبل الجيش البريطاني، حتى يدرك أن الموضوع هو في بداياته وأن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت. فازدياد عدد الأطفال العراقيين المولودين بتشوهات بشعة، وانتشار أنواع كثيرة من السّرطان بين المواطنين العراقيين، وظهور أعراض غامضة بين الجنود الأميركيين والبريطانيين العائدين من مناطق الحرب، وما أظهرته الدراسات من أن جزيئات اليورانيوم المشع قد انتشرت عبر الهواء والماء إلى مناطق بعيدة عن ساحات القتال... هي جميعها دلائل تشير إلى آثار أولية للجريمة، والتي ستحتاج إلى محقّقين حياديّين لكشف المخفي منها. ذلك أننا نتعامل مع مادة إشعاعية تبقى آثارها عبر ملايين السنين، ونتحدث عن سلاح دمار شامل استعملته جيوش غازية ضدّ عساكر ومدنيين رغم معرفتها التامة بأن الاتفاقيات الدولية تحرّم استعماله، ونتعامل مع مادة لا تبقى محصورة في منطقة محدودة وإنّما تنقلب بعد انفجارها إلى بخار ينتشر بسرعة عبر الهواء إلى مناطق بعيدة، ونحن أيضاً أمام تقارير طبية كثيرة عن الضحايا في العراق وأفغانستان وكوسوفو ولبنان... وعن آلاف الجنود الذين يعانون من أمراض محيرة. نحن إذن أمام قضية لها جوانب طبية وتكنولوجية وعلمية وقانونية وأخلاقية ومضاعفات سياسية. وهنا يبرز سؤال أساسي: لماذا يبقى الموضوع مثار اهتمام من قبل أصحاب الضمائر الحيّة في الغرب، فيكتبون عنه، ويتابعون مضاعفاته البيئية والبشرية، ويضغطون على مؤسساتهم العسكرية لمعرفة الحقيقة... بينما يهيمن الصّمت التام على المعنيين مباشرة بالموضوع، وهم العرب والمسلمون؟ فلا الحكومات العربية كونت لجاناً لدراسة الموضوع، ولا الجيوش العربية كونت فرق أبحاث وخرجت بتقارير صريحة واضحة لشعوبها، ولا المجتمع المدني العربي تكاتف مع المشتغلين بالموضوع في الغرب لملاحقة المجرمين وللمطالبة بعمل المطلوب لعلاج آلاف المصابين ولتنظيف تربة ساحات القتال والمعدات الحربية التي تلوّثت! أية قمم عربية تلك التي تعرف أن دولة استعمارية احتلت بلداً عربياً بدعوى منعه من امتلاك أسلحة دمار شامل، ثم استعملت نفس السلاح المحرّم ضدّ المدنيين، ومع ذلك لم تنبس شفاهها بكلمة احتجاج واحدة؟! أية جيوش تلك التي لم تحارب ضدّ الغزاة ولا تتخذ خطوة واحدة لحماية أبناء شعوبها من آثار أسلحة الدمار التي استعملها العدو؟! أيّ مجتمع مدني هذا الذي يخذل كل من يحاول مساعدة أمتـه ووطنه؟! يا أيتها الولايات المتحدة ويا إنجلترا ويا إسرائيل: هل تذكرون قول شكسبير في مسرحية "ماكبث" من أن رائحة الدم في يد القاتل تبقى إلى الأبد، ولن تستطيع إزالتها كل عطور بلاد العرب؟ هل تذكرون قوله في مسرحية "هملت" من أن رائحة العفونة تلفُّ مملكة الدانمرك؟ كذا الأمر عندنا، إذ أن رائحة دم وعفونة جرائم اليورانيوم المستنفد الذي استعلمتم لن تزيلها القرون. د. علي محمد فخرو