يعيش العراق في هذه المرحلة أزمة عاصفة تكاد تمزقه شر ممزق في ظل حرب أهلية، هي وإن كانت مازالت محدودة في نطاقها، إلا أنها في تصاعد مع حكومة معطلة يهيمن عليها الشيعة. يضاف إلى ذلك العدد الهائل من القتلى العراقيين الذين يصل عددهم إلى ثلاثة آلاف عراقي يسقطون في الشهر الواحد، أما القوات الأميركية، فقد تكبدت ما لا يقل عن 27 ألفاً بين قتيل وجريح منذ غزو العراق وسقوط النظام السابق. ومع ذلك لا نملك نحن الأميركيين من خيار سوى الاستمرار في الوقوف وراء القيادة العسكرية الجديدة في العراق تحت إمرة الجنرال "ديفيد بيتراوس"، والسفير الجديد في بغداد "رايان كروكر" وتوفير ما يحتاجانه من دعم عسكري وسياسي خلال الستة أشهر المقبلة. هذا الدعم يصبح مُلحاًّ إذا ما أدركنا أن الفشل في العراق قد يفضي إلى حرب إقليمية تشترك فيها الدول المجاورة للعراق، مهدداً بذلك المصالح الأميركية في المنطقة لعقود قادمة، أو أكثر. لقد رجعت لتوي من العراق والكويت، حيث أمضيت أسبوعاً زرت فيه وحدات القتال الأميركية في الميدان، فضلاً عن لقائي بمسؤولين بارزين أميركيين، وعراقيين. وجاءت تلك الزيارة بطلب من أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية، حيث أقوم بالتدريس، بهدف إنجاز تقييم استراتيجي وميداني للعمليات الأمنية الجارية في العراق. ومع أني مدرك لحجم الصعوبات التي تواجهها قواتنا في العراق، إلا أني على يقين بأن استراتيجية "بيتراوس" صائبة، وبأن الوضع لم يصل بعد إلى مرحلة اليأس وانعدام الأمل. ولو أفضنا في شرح المشاكل القائمة في العراق فقد يطول بنا الوقت في ظل آلاف الهجمات التي ينفذها ضد قواتنا كل شهر العرب السُّنة والشيعة الذين يستخدمون متفجرات مصنعة محلياً تتجاوز 2900 هجوم في الشهر. يضاف إلى ذلك رصاص القناصة الذي يستهدف جنودنا، فضلاً عن الألغام الأرضية والتفجيرات التي تطلق غاز الكلورين السام. هذا وقد تضاعفت التكلفة المالية في العراق لتصل إلى تسعة مليارات دولار في الشهر دون أن يتحقق تقدم ملموس، ما أغرق العراقيين في بحر من اليأس والقنوط ودفع بهم إلى النزوح عن مناطقهم، أو الخروج من العراق فراراً من العنف الطائفي. ولم تستثنِ الخسائر في الأرواح قوات الجيش والشرطة العراقيين التي فاقت 49 ألفاً بين قتيل وجريح خلال الـ14 شهراً الأخيرة ليتحول الأمن المنشود إلى سراب بعيد المنال على حكومة المالكي. ويزداد الخطر الذي تواجهه قواتنا المسلحة في العراق بالنظر إلى العدد الكبير من أفراد الميلشيات التي يفوق عددها مئة ألف رجل، فضلاً عن المقاتلين الأجانب الذين يقدر عددهم بحوالى 500 عنصر يتربصون بالجنود الأميركيين والقوات العراقية؛ ثم يأتي بعد ذلك الآلاف من عناصر "القاعدة" الذين يسعون إلى تأجيج الصراع الطائفي من خلال تنفيذ هجمات انتحارية تستهدف المساجد الشيعية وتوقع المئات من القتلى الأبرياء. وبالطبع يؤدي ذلك إلى ردة فعل عنيفة من قبل الميلشيات الشيعية التي تطلق نار غضبها على السكان السُّنة الأكثر هشاشة في العراق. ولم تقصِّر القوات الأميركية في التصدي لمروجي العنف، حيث قامت باعتقال 120 ألفاً من المشتبه فيهم، كما أبقت على أكثر من 27 ألفاً كمحتجزين. لكن رغم قتل حوالى 20 ألفاً من المقاتلين، لا يبدو أن الصراع المسلح على وشك الانتهاء. ولم تألو بعض الدول المجاورة للعراق جهداً لتوتير الأجواء وتأجيج الصراع الطائفي داخل العراق كل يحمي الفريق الذي يمثل مصلحته، أو يسعى من خلاله إلى ضرب الوجود الأجنبي في العراق. ويبقى العنف في العراق آلية داخلية تنتج أسباب توسعها من قيادة ومقاتلين وأسلحة يتم توفيرها من الداخل. ولا يعني ذلك عدم وجود أيادٍ خارجية تعبث بأمن العراق، لاسيما في ظل العلاقة المتداخلة بين إيران وشيعة العراق واستفادتهم من دعم "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري الإيراني بما يوفره من أسلحة ومتفجرات، توقع العديد من القتلى في صفوف الأميركيين. من جانبها وفرت سوريا مكاناً آمناً للبعثيين من أنصار النظام السابق، فضلاً عن تسهيلها، أو على الأقل تغاضيها عن تسلل المقاتلين الأجانب عبر حدودها إلى داخل العراق. ولا تخفى على أحد التهديدات العسكرية التي يوجهها الأتراك بين الحين والآخر إلى المناطق الكردية العراقية الأكثر أماناً وازدهاراً. فعلى أي أساس نبني أملنا في تحسن مرتقب للأوضاع العراقية؟ إن المراقب لما يجري في العراق لا يستطيع إلا أن يبدي إعجابه بتماسك القوات الأميركية وانضباطها في القيام بمهامها. كما أننا سننتهي من تشكيل 370 ألفاً من عناصر الجيش والشرطة العراقيين ليتوزعوا على 120 كتيبة بانتهاء العام الجاري. تضاف إلى ذلك الجهود التي تبذلها حكومة المالكي والمتمثلة في السماح لقوات الشرطة والجيش بالتوغل داخل "مدينة الصدر" والأمر بإلقاء القبض على عناصرها في بغداد. ولتشديد الرقابة على المنافذ الرئيسية لبغداد أقام "بيتراوس" أكثر من خمسين نقطة تفتيش تشرف عليها القوات الأميركية والعراقية، وهو ما أدى إلى تراجع أعمال العنف والقتل في العاصمة. والأهم من ذلك أن العشائر العربية في محافظة الأنبار التي كانت إلى عهد قريب تدعم مقاتلي "القاعدة" بدأت تواجههم وتتصدى لهم. ومع انتهاء الصيف المقبل سنعرف ما إذا كانت استراتيجية "بيتراوس" قد آتت أُكلها في العراق، أم لا، علماً بأنه بدون نجاح المباحثات حول المصالحة الوطنية لن يتراجع العنف الطائفي أبداً. باري ماكفري ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ جنرال أميركي متقاعد يُدرِّس حالياً في أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية بأميركا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"