في السياسات الأميركية قد يمثل التذبذب وتغيير المواقف خطأً قاتلاً. فعلى سبيل المثال وفي عام 2004 تمكن الرئيس بوش من تغيير وجهة نظر الناخبين الأميركيين، وصرفها بعيداً عن منافسه "الديمقراطي" السيناتور جون كيري وذلك عندما وجه له نقداً بسبب إقدامه على تغيير موقفه بشأن مسائل "جوهرية". وقال بوش في ذلك الوقت مخاطباً كيري: "إنك لا تستطيع أن تقود إذا ما قمت بإرسال رسائل مختلطة، لأن رئيس الولايات المتحدة يجب أن يوحي دائماً بالثقة واليقين لشعبه". وفي الحقيقة أن الاستراتيجية التي اتبعها بوش في الإجهاز على منافسه كانت فعالة تماماً، وهو ما ينطبق على استراتيجيات مماثلة اتبعها رؤساء أميركيون سابقون مرات عديدة في الماضي. ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية القادمة لعام 2008، فإن الناخبين يجب أن يجهزوا أنفسهم لسماع كلمات مثل تلك التي وجهها بوش لكيري مرة أخرى. ومن المعروف أن المرشحين الرئيسيين في انتخابات الرئاسة، يهرْولون قبل موعد الانتخابات بعام، أو ربما عام ونصف على الأقل، للدفاع عن أنفسهم ضد الاتهامات التي توجه إليهم بتغيير مواقفهم بشأن المسائل السياسية الجوهرية، وهو ما يعتبره الكثيرون نفاقاً مفضوحاً لاكتساب أصوات الناخبين. ومن بين الذين غيّروا مواقفهم من بين كبار "الجمهوريين" حاكم ولاية ماساشوسيتس السابق "ميت رومني" الذي غيَّر موقفه بشأن قضايا مثل الإجهاض والرقابة على الأسلحة وعلى زواج الشواذ. وهناك أيضاً عمدة نيويورك السابق "رودلف جولياني" الذي غيَّر موقفه من الإجهاض والرقابة على الأسلحة أيضاً (حيث كان مؤيداً لها وهو الآن يعارضها). وهناك السيناتور"جون ماكين" الذي غير موقفه من سياسة الخفض الضريبي التي اتبعها بوش (كان يرفضها وهو الآن لا يرى مشكلة في تطبيقها). ولو انتقلنا لجبهة "الديمقراطيين".. فسنرى أن موقفهم بشكل عام يتسم بالنفاق بشأن موضوع العراق. وقد شن منتقدو "الديمقراطيين" هجوماً شرساً على السيناتور "باراك أوباما" بسبب تذبذب موقفه بين التصويت في الكونجرس بالموافقة على تخصيص أموال للقوات في العراق، وادعائه في نفس الوقت أنه معارض لتلك الحربولذلك يتهمه البعض بممارسة عادة "اللعب على الحبلين". أما السيناتور السابق "جون إدواردز" فقد حاول التنصل من تصويته عام 2002 لصالح الحرب بالقول إن موقفه هذا يقوم على المبادئ ولا يقوم على المصلحة إلا أن أحداً لم يصدقه بالطبع. أما السيناتور "هيلاري رودهام كلينتون" فقد بدأت في تدوير عجلاتها الخطابية في إطار محاولتها الدائبة لصرف الأنظار عن قيامها بالتصويت لصالح شن الحرب على العراق دون أن تتورط في التنصل من هذا الموقف بشكل صريح. هناك احتمال وارد في مثل هذه الحالة، وهو أن يكون بعض المرشحين قد توافرت لديهم من المعلومات الجديدة ما قد يجعلهم يقدمون على تغيير مواقفهم، أو ربما يكونون قد أصبحوا أكبر سناً وبالتالي أكثر نضجاً مما يدفعهم بالتالي إلى إعادة التفكير في مواقفهم. وهناك عدد محدود من الناخبين الذين قد يصدقون ذلك، لأن الناخبين في سنة الانتخابات تحديداً يميلون إلى النظر فيما وراء الموضوعات المطروحة للسجال، والتركيز بدلاً من ذلك على شخصية المرشح ذاته. فهم يميلون في تلك السنة عادة إلى دعم المرشح الذي توحي شخصيته بالثقة، والذي يعتنق المبادئ التي يفهمونها. وهم يخشون من المرشح الذي يقوم بتغيير مواقفه من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الرفض للقبول أو العكس، ويعتقدون أنه يتملَّق الناخبين، وأنه قد يتخلى عن آراء آمن بها طويلاً من أجل تحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد. ولكن السؤال الذي قد يخطر على أذهان البعض في هذا السياق: هل جميع أنواع التقلبات في المواقف والآراء مكروهة؟ أليس من الإنصاف القول إن رغبة المرشح في تغيير موقفه -فجأة وجوهرياً في بعض الأحيان- استجابة للظروف المتغيرة، هو تقليد من التقاليد المقبولة في إدارة شؤون الحكم في الولايات المتحدة. الحقيقة أن الرغبة في التوصل إلى حلول وسط تعتبر مكوناً مهماً للغاية من مكونات القيادة الجادة، وقد حفظ لنا التاريخ أن العديد من أكثر الرؤساء الأميركيين شعبية بدءاً من الآباء المؤسسين وحتى الآن، قد قاموا في بعض الحالات بتحدي الاتجاه السائد وتغيير موقفهم من بعض القضايا الجوهرية. فتوماس جيفرسون غيَّر موقفه الرافض للاستدانة وذلك عندما عرض الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت بيع أملاكه الشاسعة في غرب الشمال الأميركي عام 1803 حيث استدان جيفرسون حينئذ أموالاً باهظة لتمويل صفقة شراء ولاية لويزيانا. بعد ذلك التاريخ بثلاثة عقود قام "إبراهام لينكولن" بتغيير موقفه إلى الاتجاه المعاكس تماماً بشأن الكثير من الموضوعات المهمة في ذلك الوقت ومنها التدخل الحكومي في قضية العبودية في ولايات الجنوب حيث كان يرفض ذلك تماماً.. ومنها استخدام الجيش في التدخل في بعض الولايات المتمردة حيث كان يرفض ذلك أيضاً ويعتبره جريمة الجرائم. ولكن عندما بدأت ولايات الجنوب في إعلان استقلالها قام لينكولن فوراً بإرسال الجيش لقمعها، وأعلن أن العبيد الذين سيتمردون على سادتهم فيها سيعتبرون أحراراً إلى الأبد. والقائمة تطول ولا يتسع المقال لذكرها كلها هنا، ولكننا سنتناول رؤساء حديثين نوعاً ما ومنهم جورج بوش الأب الذي أعلن في خطابه الافتتاحي تعهده بعدم فرض ضرائب جديدة، ثم قام في عام 1990 بفرض حزمة من الضرائب. قرب انتهاء حياته الوظيفية، أعاد الخبير الاقتصادي المعروف "جون كينيث جالبريث" الذي خدم كمستشار مع أربعة رؤساء ب=التأمل في الخصائص والصفات التي يعتقد أنها تميز أعظم القادة في الأمة الأميركية، وتبين له أن من أهم تلك الصفات ما أطلق عليه "التكيف البراجماتي مع كل ما هو مطلوب فعله".. لذلك فإنك إذا ما سمعت يوماً ما سياسياً يقول: "إنني سأتمسك بمبادئي تمسكاً حرفياً" فإنني أنصحك بأن تتخذ ساتراً لوقاية نفسك، لأنني أعلم تمام العلم أنك ستعاني على يديه. والناخبون الأميركيون من وجهة نظرهم يجب أن يهتموا بهذا التحذير ويتذكروا أنه ليس كل من قام بتغيير موقفه بشأن قضية من القضايا هو شخص منافق ولا يؤمن بغير مصلحته الشخصية- هذا بالنسبة للبعض منهم فقط على الأقل. بروس شولمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ التاريخ بجامعة بوسطن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"