عندما قُبض على 15 بحاراً بريطانيا من قبل القوات الإيرانية بتهمة دخول المياه الإقليمية الإيرانية، أشار قائد الزورق إلى الحادث باعتباره "سوء تفاهم بسيطا". غير أن أجهزة نظام تحديد المواقع "جي بي إس" على متن زوارق الدوريات البريطانية والسفن التجارية التي كانت تقوم بتفتيشها، تُظهر بوضوح أنها كانت توجد في المياه الإقليمية العراقية، وليس الإيرانية. والواقع أنه كان بالإمكان إنهاء المسألة وإعادة الجنود بمجرد ما تم تنبيه إيران إلى الالتباس الحاصل. ففي النهاية، فإن نظام "جي بي إس" العسكري لا يخطئ. بيد أن لا شيء بخصوص تكنولوجيا تحديد المواقع بسيط إلى هذه الدرجة؛ فقد أتى المسؤولون الإيرانيون في البداية بإحداثيات خرائط وضعت البحارة في المياه العراقية، وإن في موقع مختلف عن الموقع الذي حددته الحكومة البريطانية. وبعد ذلك، عندما قيل للإيرانيين إن ذلك ليس جريمة، أتوا بمجموعة ثانية من الإحداثيات. غير أنه بغض النظر عن مدى صحة الخرائط التي قُدمت، فإن إيران ما زالت تحتجز الجنود. وبغض النظر عن مدى الدقة التي تمت بها قراءة نظام "جي بي إس"، فإنه ليس حلاً في حد ذاته. لقد أضحى نظام "جي بي إس" أداة مذهلة تحل مشاكل المزارعين، وحراس السجون، والآباء القلقين على أطفالهم، إضافة إلى سائقي المركبات وقادة الطائرات السفن. غير أنه مثلما يُظهر هذا الحادث، فهو بالتأكيد ليس حلاً لجميع المشكلات؛ فالإفراط في الاعتماد عليه أمرٌ لا يخلو من مخاطر على اعتبار أن "جي بي إس" –وهو النظام الذي يُمَكننا من معرفة موقعنا على الكرة الأرضية- يمكن أن يمنحنا إحساساً زائفا بالأمن. والواقع أن أزمةً شبيهة بالأزمة الحالية حدثت من قبل، وهي التي دفعت حكومة الولايات المتحدة إلى نزع طابع السرية عن هذا النظام أصلاً. ففي الأول من سبتمبر 1983، ضلت طائرةٌ مدنية تابعة للخطوط الكورية الجنوبية، كانت متوجهة من نيويورك إلى سيئول، طريقها شمال اليابان ودخلت المجال الجوي السوفييتي. ونتيجة لذلك، أرسلت القيادة الجوية السوفييتية مقاتلات من طراز "ميج" و"سوخوي" على وجه السرعة، على افتراض أن إشارةَ طائرةِ البوينج 747 على شاشة الرادار ربما تكون لنوع من طائرات التجسس. فقامت إحدى طائرات "سوخوي" باتصال بصري مع الطائرة الكورية الجنوبية، وأطلقت طلقات تحذيرية قبل أن تقوم بإسقاطها، ما أسفر عن مقتل ركابها وطاقمها المئتين والتسعة والستين. إدارة ريجان رأت أن الخطوة الأفضل لا تكمن في الرد العسكري، وإنما في جعل نظام تحديد المواقع الفتي، وهو برنامج مشترك بين سلاح الجو وسلاح البحرية، متاحاً بالمجان لشركات الخطوط الجوية والملاحة عبر العالم حالما يصبح جاهزاً للخدمة. والواقع أن نظام "جي بي إس" يخبر المرء بموقع وجوده، وهذا كل ما في الأمر، إلا أن الاعتقاد الذي كان سائداً وقتها هو أنه لو أن ذاك النوع من أجهزة الملاحة كان متاحاً، لما كانت طائرة بوينج 747 لتضل طريقها. وبعد ربع قرن تقريباً على هذا الحادث، أصبح نظام "جي بي إس" تكنولوجيا مألوفة إلى درجة أن البعض أطلق عليها اسم "الخدمة الخامسة" –بعد الماء والغاز والكهرباء والاتصالات. إذ باتت الهواتف النقالة، والكاميرات، بل وحتى الأحذية مزودة بأجهزة الاستقبال التي تساعد السائقين على تحديد مساراتهم، والمزارعين على معرفة حدود أراضيهم، والسلطات القضائية على رصد تحركات المفرَج عنهم بكفالة. أما بالنسبة لزبونها الأصلي -الجيش- فقد وفر نظامُ "جي بي إيس" العسكري الدعمَ للمركبات والقوات الجوية والبحرية والأرضية. وإضافة إلى ذلك، فقد حسَّن، باعتباره نظام التوجيه وراء "القنابل الذكية"، دقة الضربات العسكرية، التي تدخر المال والجهد والأرواح البريئة. بيد أنه، مثلما رأينا في العراق وأفغانستان، فإن الانخفاض العام في "الخسائر البشرية" يجعل الأخطاءَ التي تحدث بسبب أخطاء البرمجة يبدو أنه بالإمكان تفاديها. ففي أكتوبر 2001، ألقت طائرة حربية أميركية قنبلة تزن 2000 رطل على هدف خاطئ في العاصمة الأفغانية كابول، ما أدى إلى مقتل أربعة أشخاص. والشهر التالي، جُرح عدد من القوات الأميركية وقوات التحالف في حادث مماثل بعد أن غيَّر أميركي البطاريات في جهاز "جي بي إس"، متسببا بالتالي في تغير إحداثيات الموقع الذي كان من المفترض أن تستهدفه الضربة. وفي يناير 2005، ألقت مقاتلة أميركية من طراز "إف 16" قنبلةً تزن 500 باوند على منزل بمدينة الموصل العراقية، ما أدى إلى مقتل خمسة أشخاص. وفي جميع هذه الحالات، لم تُسجَّل مشاكل بخصوص القنابل أو وحدات "جي بي إس"، بل كل ما في الأمر أنها كانت تتلقى تعليمات غير دقيقة. والحقيقة أن حادث البحارة البريطانيين لا يعد أول حالة توتر دبلوماسي بسبب تكنولوجيا تحديد المواقع. ففي السابع من مايو 1999، شملت حملةُ قصفٍ نفذتها قوات "الناتو" بقيادة الولايات المتحدة على بلغراد السفارةَ الصينية عن طريق الخطأ، وهو ما أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص وجَرح نحو عشرين آخرين. وعلى إثر ذلك، أعلنت الولايات المتحدة أنها لم تكن تنوي ضرب المبنى؛ وقال مدير "السي آي إيه" جورج تينيت في وقت لاحق إن الخطأ لا يُعزى إلى خلل في نظام "جي بي إس"، وإنما إلى خرائط مغلوطة بسبب إحداثيات عير دقيقة. ثمة قاعدة قديمة بالنسبة للبحارة تحذر من مغبة الاعتماد على وسيلة واحدة في الإبحار؛ فأن يتوفرَ المرءُ على نظام "جي بي إس" أمر جيد، غير أنه لا يعني أنه يمكنه الاستغناء عن بوصلته وآلة السدس وتركهما في اليابسة. ذلك أن العطب، سواء بسبب مشكلة كهربائية أو بطارية قديمة أو خطأ بشري، يمكن أن يكون مدمراً وكارثيا. أما الدرس الحقيقي هنا، فهو أن نظام "جي بي إس"، مهما كانت دقته، لن يحمينا من البحار الهائجة –أو أزمة دبلوماسية دولية. ويلسون روثمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مؤلف كتاب مقبل حول تاريخ نظام تحديد المواقع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"