لا يولد الإنسان كارهاً للحياة، لكن عوامل مجتمعية داخلية وخارجية تسهم في تكوين هذه الشخصية الكارهة، الإنسان يحب الحياة- وهي نعمة عظيمة- بفطرته وطبيعته ويهاب الموت ويفر منه. ولطالما تساءلت- مندهشاً محتاراً- ما الذي جعل بعض شبابنا يحب الموت ويندفع إليه اندفاعاً؟! كيف هانت الحياة عليه؟ كيف هانت أسرته وأولاده وأحباؤه؟ لم أجد إجابة شافية غير "ثقافة الكراهية"، كراهية الحياة ومن عليها لدرجة تفجير النفس في الآخرين! ترى لماذا أصبحت نظرتهم بهذه السوداوية! لماذا تحولوا إلى قنابل بشرية متفجرة؟ هل الهدف هو "الجنة" كما يزعمون و"الحور" كما يتمنون؟ ولكن لماذا يكون الطريق إلى كل ذلك على حساب الآخرين الأبرياء؟ ما ذنبهم؟ ما الذي حبّبهم في ثقافة "فجّر نفسك وادخل الجنة"؟ يدخل أحدهم مطعماً مزدحماً بالعمال الكادحين فيفجر نفسه بينهم ليقتل أكبر عدد منهم ويزعم أنه بذلك يدخل الجنة! ما الذي غرس في عقل هذا الانتحاري ومشاعره أن ذلك هو الطريق للجنة؟ إنها "ثقافة الكراهية" العميقة للآخر واحتجاز الجنة ونعيمها لفرقة واحدة من المسلمين، بداياتها التاريخية حديث "الفرقة الناجية" وصراعات الفرق الإسلامية حول من يمثل "الفرقة الناجية" من دون المسلمين! صحيح أن الإنسان يضحي بنفسه من أجل دينه ووطنه والمبادئ العليا، لكن ليس من منطلق الكراهية بل في سبيل ما هو أعظم وأبقى، ولكن هؤلاء يفجرون أنفسهم في الآخرين من أجل لا هدف، من أجل العدم، من أجل الانتقام، من أجل تدمير الذات فقط، بدليل أنه على الامتداد التاريخي للعمل الانتحاري بدءاً من الخوارج القدامى حتى الخوارج الجدد، لم يحقق هذا العمل أي هدف ولم يرد أية مظلمة ولم يحقق أي مشروع تنموي أو إصلاحي أو تحريري! وخطاب "تدمير الذات" هو أحد تجليات وإبداعات العقلية الإقصائية التي لا تكتفي بتكفير الآخرين وتخوينهم بل تعمد إلى تفجيرهم. وهذا الخطاب التدميري وشيوعه بين بعض شبابنا سواء في المنطقة العربية أو خارجها، أبلغ دليل على إخفاق خطاب "الوسطية والاعتدال" في تحصين الشباب وتقوية مناعته ضد أمراض التطرف. خمسون سنة ودعاة الوسطية والتسامح يهيمنون على المناهج التعليمية والمنابر الدينية، ولم يفلحوا في غرس "الوسطية والتسامح" في التربة المجتمعية. والسؤال: أين الخلل؟ في المضامين أم في الأساليب أم في الدعاة؟ لماذا بقيت "الوسطية والتسامح" شعاراً كبقية شعارات الأمة ذات الرسالة الخالدة؟ إنه من تبسيط القول، أن نقول "الإرهاب فيروس عابر" وإنه لا وطن له ولا دين ولا جنسية! أو نكرر القول "إن هذا مما يبرأ منه الإسلام"... هذه الأقوال مع صحتها واحترامنا لقائليها، تصب جميعاً في خانة "الدفاع" و"التبرير" وتبرئة "الذات" والهروب من "المسؤولية". خطاب "الدفاع" عن صورة الإسلام لن يعالج "الأصل المعوجّ" ما لم يقترن القول بالفعل ويترجم في السلوكيات والتصرفات. وخطاب التبرير الذي يربط الفعل الإرهابي بالمظالم السياسية والدولية يريحنا ويعفينا من المسؤولية ولكنه لن يصحح الأوضاع بل يستديم الفعل الإرهابي، كما أنه خطاب (التحريض) أولادنا ضحاياه. وليس بـ"الدفاع" ولا "التبرير" ولا "التحريض" نغير الأوضاع بل بإرادة "التغيير" لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ومهما شتمنا أميركا وإسرائيل والغرب ونفخنا في سياستهم، فذلك لن يصلح حالنا ولن يضرهم شتمنا شيئاً! وتتبّع سيئات الغرب ضد الإسلام ورسوله- عليه الصلاة والسلام- والمسلمين والرد عليها عبر بيان محاسن الإسلام ومبادئه وقيمه السامية، لن يحقق "التحصين" و"المناعة" المنشودين في نفوس أبنائنا، لأن من حق الآخر أن يتساءل: إذا كنتم ترون الإسلام بهذا الكمال فلماذا لا نراه ماثلاً في سلوكياتكم وأوضاعكم؟ لماذا هذه الفجوة الواسعة بين تعاليم دينكم وتقاليد مجتمعاتكم؟ ولن يجدينا نفعاً أن نرد: ذلك بسبب سياساتكم الظالمة! علاج "المشكل الإرهابي" لا يكون إلا بعلاج "الأوضاع" التي أفرزته، ولا سبيل لذلك إلا بخطاب "معرفي نقدي" لكافة المنظومة المجتمعية ومفاصلها الرئيسية: تربية وتعليماً وخطاباً دينياً وإعلامياً وتشريعياً وسياسياً. الخطاب المعرفي النقدي الذي يحلل ما لنا وما علينا وما للآخر وما عليه، هو الذي يحقق "المناعة" وليس خطاب "الممانعة"، وخطاب "الهوية" المنفتحة هو الذي يحقق "التحصين" لا الهوية المنغلقة. إننا بحاجة إلى تكريس وتعميق ثقافة "الاختلاف" تربية وتعليماً وإعلاماً وخطاباً دينياً، باعتبارها عاملاً مهماً في تقوية "المناعة المجتمعية". لقد قال الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة ذات مرة إن "الإرهاب دخيل علينا باسم الإسلام، ونحن الأولى بمجابهته ومقاومته"، وأبدى سموه عتباً على المشايخ الذين لا يقفون موقفاً واحداً ضد العمليات الإرهابية، ولا يمتلكون الشجاعة الكافية لإخراج "القاعدة" والزرقاوي من الملّة. هذا القول صادق، وهؤلاء ليس فقط لا يمتلكون الشجاعة بل إنهم يلتمسون لـ"القاعدة" والزرقاوي "التبريرات" التي تسوّغ هذه الأعمال بربطها بالسياسات الظالمة لأميركا ويقولون إن ذلك بسبب السياسات الحمقاء ومن باب (الانتقام) والثأر لـ"الكرامة"! "تبرير" الإرهاب، يضعف "المناعة" ويدمر "الذات" ويساعد على انتشار الفكر الإرهابي. "التبرير" خطأ معرفي وخطأ سياسي- أيضاً- فأنت لا تواجه المظالم بتدمير الذات، ذلك عجز وفشل وإفلاس فكري وسياسي. لا يمكن مواجهة الإرهاب إلا باستراتيجية شاملة- علاجاً ووقاية- أبرز معالمها: 1- تفعيل توصيات قمة مكة التي أدانت الإرهاب بكل صوره وتبريراته، وترجمة ذلك إلى تشريعات وطنية تعاقب المحرّض والمبرّر، كما فعلت الأردن. 2- تفعيل قرار مجلس الأمن (1624) بتجريم التحريض وتبريره. 3- ضبط ومراقبة الفتاوى "المكفرة" و"المحرضة" ومعاقبة دعاتها وإبعادهم عن الخطابة والتوجيه والتعليم. 4- تحريم استخدام المنابر في غير أهدافها الشرعية عبر الترويج لأجندة حزبية أو أيديولوجية أو طائفية. 5- إحياء النزعة "الإنسانية" المغيّبة في الخطاب الديني وتطويره. 6- تعميق مفهوم "المواطنة" باعتبارها رابطاً جامعاً يعلو كل الانتماءات الأخرى. 7- تدريس ثقافة "الاختلاف" مقرراً في المناهج الدراسية. 8- تصحيح المفاهيم الدينية التي شوّهها أصحاب التطرف (الجهاد، الأمر بالمعروف، الولاء.. إلخ). 9- تعميق "القواسم" المشتركة بين الأديان والمذاهب. 10- تبني المنهج النقدي في تدريس التاريخ.