في خطاب القمة العربية الأخيرة، قدّم العاهل السعودي تحليلاً مخلصاً وشديد الإيجاز للمحنة العربية في فلسطين والعراق ولبنان. وسأل الملك: "ماذا فعلنا طيلة هذه السنين لحل كل ذلك؟". ولأن الجواب كامن في السؤال فقد اختصر الطريق وأكد أن "اللوم الحقيقي يقع علينا نحن قادة الأمة العربية". وما لبث أن فتح الباب للأمل بأن دعا القادة العرب مبتدئاً بنفسه إلى "بداية جديدة" حتى "لا يرتفع على أرض المنطقة سوى علم العروبة". ماذا تعني البداية الجديدة التي يدعو لها العاهل السعودي؟ لا يشتمل الخطاب على تفاصيل هذه البداية. إنه ينطلق من بديهية أن "الفرقة ليست قدرنا, والتخلف ليس مصيرنا المحتوم". ويحدد نقطة البداية السليمة بلغة غاية في البساطة وتكاد تكون مأخوذة من الخطاب العمري الذي استعاره الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهي أن الله تعالى "منحنا الكرامة" وخصنا "بعقول تستطيع التفرقة بين الحق والباطل وضمائر تميز بين الخير والشر". أما الفعل الإيجابي الذي يعين أحداثيات البداية الجديدة فهو أن "نطهر أنفسنا من المخاوف والتوجس, فلا يحمل الأخ لأخيه غير المحبة والمودة ولا يتمنى له إلا الخير الذي يتمناه لنفسه". ويطوف الخطاب بين عناصر أساسية للفعل الضروري للخلاص وهي: الثقة بالنفس, واستعادة المصداقية وهبوب رياح الأمل". ووفقاً للخطاب تكفي هذه العناصر للحيلولة دون أن ترسم "قوى خارج المنطقة مستقبل المنطقة". يبدو هذا التحليل مدهشا ببساطته. والخطاب كله يتسم بثلاث خصائص شكلية كبرى. فهو أولاً ينطلق من "شخصنة المشكلة العربية". فالمخاطب به هم القادة بصفتهم أشخاصاً. وهو يدعو هؤلاء الأشخاص إلى التخلي عن الفرقة وترك الخلافات واستعادة الثقة بالنفس وبناء الثقة بين بعضهم البعض واستعادة المصداقية. إن القمة في سياق الخطاب هي تجمع إنساني أو اجتماع لأشخاص بصفتهم الإنسانية والشخصية. فإن صح الاجتماع وقرر هؤلاء الأشخاص أن ينحّوا جانباً روح الفرقة والاختلاف صحت الأمة. وبهذا المعنى وحده تقريباً لام العاهل السعودي زملاءه من القادة العرب على مسؤوليتهم عن الحالة الراهنة للأمة. وتتسق السمة الشكلية الثانية مع هذا التعيين للمخاطبين. فالخطاب يستعين بلغة أخلاقية غاية في الرقي الإنساني وفيها مسحة أو نفحة من نفحات الصوفية. فالخطاب يشير صراحة وإن بصورة تجريدية- ربما لأغراض التهذيب والملاءمة- إلى المقابلة بين الخير والشر والحق والباطل والتوجس والتطهر. ولا يسعنا هنا بالطبع أن نعين صلة هذه اللغة أو هذه المقابلات الثنائية بواقع الأمة العربية أو طبائع قادتها المخاطبين المجتمعين في القمة. أما السمة الثالثة فهي بساطة الاستنتاج الخاص بالطريق إلى الخلاص القومي. فغايته هو أن يتحرك العقل فيدرك فوراً الفارق بين الحق والباطل ويتعرف بداهة على طريق الخير بعيداً عن طريق الشر وذلك بالطبع إن خلصت الضمائر وأقلعت عن عادة الاختلاف والسجال وعادت إلى معنى الكرامة والعقل. وعندما يستعيد القادة ثقتهم بأنفسهم وببعضهم البعض يختفي التوجس وتعود المصداقية وتهب رياح الأمل. فهل تقلل هذه البساطة الضافية من قيمة هذا الخطاب؟ ليس بالضرورة. فنحن نقف هنا أمام خطاب قيادي يحتفظ بكثير من "أسراره" ومضمونه العملي للمناقشات التفصيلية. ويبدو من المنطقي أحياناً أن يصدر القادة نداء يخاطب أعمق ما في الوجدان الإنساني من نوازع وأكثر المعاني سمواً وتجرداً وهو ما نسميه "نداء الضمير". ومع ذلك يبقى التعرف على طريق الخلاص صعباً إن لم يكن مستحيلاً إن بقي الخطاب على مستوى العموميات الشخصانية والبديهيات الإنسانية والأخلاقيات الخالصة. فعندما ينتهي الخطاب من هذه العموميات ويدلف إلى مجال التشخيص والتحليل المتعين وبناء المواقف، يضطر المخاطب والمخاطبون إلى الدخول في تفصيلات جوهرية ويجدون أنفسهم في دورة مفرغة. فما أسهل مثلاً أن يصف شخص ما بالشر ما يراه آخرون خيراً محضاً, أو العكس. وما أصعب إثبات كيفية انطباق أو عدم انطباق بديهيات معينة في مجال الفعل السياسي والاجتماعي الصادر عن قائد بعينه أو دولة عربية بذاتها. وبإيجاز يصبح من المحتم أن يقدم القادة تحليلاً سياسياً مباشراً ومن خلال لغة التحليل السياسي والاجتماعي وعبر وسائط الحقل المعرفي أو الفكري أو الثقافي للفعل السياسي. ومن هذه الزاوية لا يعد القادة أشخاصاً إلا بالقدر الذي يتعين فيه كل سلوك سياسي بالطابع الإنساني وبتنوع الأشخاص الذين نهضوا به وبالقدر الذي يملكون فيه أن يحشروا هواهم الشخصي في الفعل السياسي الذي تتحمل مسؤولياته دول ومجتمعات. ويجب أن نشير هنا بالضرورة وبلغة ناقدة إلى تلك الظروف والسياقات التي تمكن القادة العرب دون غيرهم من قادة الدول من "شخصنة" السلطات التي يحتلونها باسم المجتمعات والدول العربية. وبتعبير آخر فإن العاهل السعودي الكبير عندما يخاطب القادة بأشخاصهم إنما يجبرنا على مناقشة ونقد الطابع الشخصاني للسلطة والقيادة السياسية في منطقتنا من العالم بل ويجبرنا على النظر لشخصنة السلطة والدولة باعتبارها أحد الأعراض بل وأحد أسباب المحنة التي يمر بها العالم العربي. فبكل بساطة لم يخط العالم العربي خطوات تذكر على طريق حسم "ضرورة الحداثة" و"حتمية "مأسسة السلطة" السياسية وضمان تحويلها تحويلاً ديمقراطياً. وكنا نتمنى أن يطرح العاهل السعودي على العالم العربي قضية "حداثيته المفقودة" والتي تملي أن يضطلع القائد بوظيفة محددة في إطار مؤسسات دولة يمكن مساءلتها عن اختياراتها ومراجعة هذه الاختيارات وهو ما يعني أيضاً "محاسبه" هؤلاء القادة وليس مجرد "لومهم" على أخطاء لا تقل جسامة عما عرضه خطاب القمة بوضوح كبير. والواقع أنه حتى في العالم العربي حيث تظهر مشكلة شخصنة السلطة بصورة حادة لا يمكن النظر للقادة وكأنهم مجرد أشخاص يحكمون بهواهم وأهوائهم إلا من حيث التفاصيل- وبعضها مهم بالطبع. فالقادة حتى في العالم العربي هم قبل ذلك ممثلون لمصالح اجتماعية وتشكيلات سياسية ويتخذون قراراتهم وفقاً لأيديولوجيا صريحة أو مضمرة ويصدرون أفعالهم عن ذهنية بعينها تكونت عبر تاريخ ثقافي وسياسي محدد. والمحنة العربية ليست في هذا السياق تعبيرا عن سجال أو صدام بين شخصيات لم تتمكن من إيجاد كيمياء مناسبة للتفاعل فيما بينها بصورة خلاقة وإيجابية. بل هي أيضاً أو في الواقع أساساً تعبير عن تباين مصالح دول وطبقات وأقسام اجتماعية وقوى ثقافية وسياسية لكل منها تراثه أو بالأحرى إرثه التاريخي والأيديولوجي الخاص. ومن ثم فإن الطريق إلى الخلاص لن يسهل التعرف عليه إلا من خلال استنباط صيغ خلاقة لضمان توافق وتوازن المصالح الخاصة بالدول والطبقات والقوى الاجتماعية والسياسية السائدة. وعندما يستحيل إيجاد هذا التوافق أو هذه الصيغ الخلاقة يتحتم أن تعاد هيكلة المجال السياسي العربي من أجل تكوين كتلة قائدة تستطيع أن تفرض رفع "علم العروبة" وحده في ربوع المنطقة. وبمجرد أن يطلق العاهل السعودي هذا الشعار فهو ينفخ الحياة في المشروع القومي العربي التحرري الذي يبدو وكأنه قد اندثر جزئياً بسبب سياسات ومواقف عربية معروفة. معنى البداية الجديدة، إلى جانب نداء الضمير الذي أطلقه العاهل السعودي، كونها رؤية سياسية تزود بخطة عمل محددة قابلة للتطبيق. والواقع أن مضمون "البداية الجديدة" ليس سوى "وثائق واتفاقيات وقرارات قديمة" لم تنفذ ويتحتم تنفيذها لأنها تكفي وتزيد لوضع المشروع القومي العربي التحرري موضع التطبيق.