في وقت سابق من شهر مارس الماضي، سُربت مسودة تقرير أعدها البيت الأبيض إلى وسائل الإعلام الأميركية، كان يفترض بها أن ترفع إلى منظمة الأمم المتحدة قبل عام من ذلك التاريخ. يفيد التقرير بأن إنتاج الولايات المتحدة من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، سيرتفع بحلول 2020 بحوالى 20% مقارنة مع عام 2000، وبأن الإسهام الأميركي في الاحترار الأرضي سيستمر في الارتفاع على نحو مطرد، عكس ما أعلن العلماء من أنه سيشهد انخفاضاً كبيراً خلال السنوات المقبلة. وبالطبع تشكل هذه المعلومات الجديدة أهمية قصوى، تفوق ما تحظى به مؤشرات "داو جونز" من اهتمام لدى الرأي العام. فكيف حصل ذلك؟ كيف، ونحن نواجه إحدى أكبر الأزمات التي ساهم في صنعها الإنسان، لم نكترث بما يكفي وتابعنا أعمالنا اليومية وكأن شيئاً لم يحدث؟ والجواب يكمن، في جزء منه، داخل أذهاننا؛ بمعنى ذلك النمط من التفكير الذي ساد لفترة طويلة وأصبح جزءاً أصيلاً من ثقافتنا الأميركية. فقد اتجه المجتمع الأميركي على امتداد القرن الأخير إلى الاحتفاء بكل ما هو كبير ووافر -اقتصاد كبير، ومقتنيات أكثر لكل واحد منا. وقد نجحنا بالفعل في تحقيق الكثير من تطلعاتنا، حيث بتنا نتوفر على اقتصاد ضخم، وبيوت كبيرة، كما أصبح الكثير منا يعيش حياة مترفة. وبالطبع يتم تحقيق الكثير من ذلك التعطش نحو الكبر بالاستناد إلى الطاقة الرخيصة التي تستخدم ثاني أكسيد الكربون بشكل أساسي، علماً بأنه الغاز الذي يمثل لوحده 72% من الغازات المسببة للاحتباس الحراري. وإذا كانت بعض الملوثات مثل السخام يمكن التخلص منها كلما زاد ثراؤنا عبر تركيب محولات في السيارات، إلا أن ثاني أكسيد الكربون سيستمر في ملاحقة النمو الاقتصادي والتأثير عليه. فكما صرح "بنجامين فريدمان" الخبير الاقتصادي من جامعة "هارفارد" العام الماضي بخصوص غاز ثاني أكسيد الكربون: "إنه الملوث البيئي الوحيد الذي لم تشر أي دارسة علمية إلى أنه ينخفض مع ارتفاع المستوى المعيشي". وهذا يعني أنه إذا أردنا التعامل مع الاحترار الأرضي، فإنه سيكون علينا أيضاً التعامل مع توقف النمو اللامتناهي للاقتصاد، وتوسعه غير المحدود. وفي هذا السياق، تشير آخر البيانات إلى أنه طيلة السنوات الماضية كنا نتحرك وسط الظلام. فقد اتفقنا كمجتمع وأفراد على فرضية مؤداها أن الوفرة هي دائماً الأفضل، وأنها المبتغى ومنتهى الطموح، ولفترة معينة في الحياة الأميركية بدا وكأن لذلك الرهان على الغنى والوفرة ما يبرره. غير أنه في السنوات الأخيرة برز العديد من علماء الاقتصاد والاجتماع، فضلاً عن باحثين في تخصصات أخرى يشككون في العلاقة بين الغنى والسعادة. والواقع أن الأبحاث التي أجريت في هذا المجال كشفت أنه منذ الخمسينيات على الأقل لم يفض الازدهار المادي، إلا إلى القليل جداً فيما يتعلق بالوصول إلى حالة من الرضا الإنساني الشامل. فخلال عقد التسعينيات على سبيل المثال، ورغم النمو الاقتصادي المتسارع، فضلاً عن التحسن الكبير في مستوى معيشة السكان، لاحظ الباحثون أن ذلك تزامن مع تصاعد في "أوجه الحياة السلبية" على حد قول أحد الباحثين. فقد كانت التوقعات متفائلة وتنبني على فرضية تراكم المقتنيات واتساع دائرة الغنى، لتأتي الدراسات بعد ذلك مفندة لتلك الفرضية، ومؤكدة في الوقت نفسه ما قالته الحكمة القديمة من أن الغنى لا يقود بالضرورة إلى السعادة. والأكثر من ذلك أن النمو الاقتصادي المطرد أدى إلى ارتفاع نسبة انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون في الأجواء. ولم يعد خافياً اليوم، لاسيما لدى الخبراء الاقتصاديين، وعلماء الاجتماع أن الشعور بعدم الرضا الذي يسود المجتمع الأميركي مرتبط بالنمو الاقتصادي. فكيف إذن ننفق أموالنا المتراكمة؟ إننا نشتري البيوت الكبيرة، ونرحل بعيداً إلى الضواحي المنعزلة، والنتيجة أننا نتوفر على أصدقاء أقل ونادراً ما تجمعنا وجبة الطعام مع أفراد الأسرة، أو مع الأصدقاء والجيران، ما أدى في النهاية إلى تقلص علاقاتنا الاجتماعية إلى أقصى الحدود. فما الذي يفضله الفرد منا للحصول على تلفزيون أو امتلاك صديق جديد؟ ولإعادة الحياة إلى المجتمع لابد من إحياء الاقتصاديات المحلية، بحيث تُسترجع الحاجة مجدداً إلى الجار. وفي هذا الإطار يمكن النظر إلى تجربة فريدة في الولايات المتحدة، تتمثل في الأسواق التي يعرض فيها المزارعون منتجاتهم مباشرة وتشهد ازدهاراً ملحوظاً. وتكمن متعة تلك الأسواق فيما تعرضه من خضار طازجة أمام المشترين، تتعاقب حسب فصول السنة، لكن الأهم من ذلك حسب المراقبين المتعة النفسية التي توفرها تلك الأسواق، بحيث لوحظ ارتفاع عدد المحادثات بين مرتادي تلك الأسواق. ولأن الأسواق المحلية تعرض المنتجات الغذائية القادمة من المناطق القريبة، فإن استهلاك الطاقة هو أقل بعشر مرات مقارنة بشراء المنتجات القادمة من المناطق البعيدة. وإذا لم نسارع إلى وضع حد للانبعاث المفرط لغاز ثاني أكسيد الكربون، فإننا نلحق ضرراً كبيراً ليس فقط بكوكب الأرض، بل أيضاً بالنسيج الاجتماعي الأميركي. ولا يكمن الحل في الدعوة إلى تحسين العلاقات الاجتماعية وتقويتها، بل في إيجاد القاعدة الاقتصادية التي تدعم هذه التوجه مثل إحداث الأسواق المحلية التي تساهم أيضاً في ترشيد استهلاك الطاقة. بيل ماكيبين باحث مقيم في كلية "ميديلبوري" الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"