في كلمته الافتتاحية غير التقليدية لقمة الرياض قال الملك عبدالله بن عبدالعزيز: "إن أول خطوة في طريق الخلاص هي أن نستعيد الثقة في أنفسنا، وفي بعضنا البعض، فإذا عادت الثقة عادت معها المصداقية، وإذا عادت المصداقية هبّت رياح الأمل على الأمة، وعندها لن نسمح لقوى من خارج المنطقة أن ترسم مستقبل المنطقة، ولن يرتفع على أرض العرب سوى علم العروبة". جاءت الكلمات متسقة مع مؤشرات سبقتها أفادت بأننا قد نكون بسبيل قمة ترتفع إلى مستوى التحديات الراهنة، خاصة وأن سياسات خصوم الأمة غارقة في الفشل، وليس من أفق لنجاتها، لكن رياح الأمل شيء وقيود الواقع شيء آخر. يحار المرء كيف يقيم قمة الرياض؟ أيكون ذلك قياساً على الآمال التي بنيت عليها قبل انعقادها؟ لاشك أن قمة الرياض ستخسر الرهان إذا قيمت على هذا النحو، فقد سبقتها آمال كبار استندت إلى النجاح في توقيع "اتفاق مكة"، وجدية السعي العربي من أجل حل الأزمة اللبنانية، والنشاط الدبلوماسي السعودي الدافق من أجل توفير كافة فرص النجاح للقمة. غير أن قيود الواقع فرضت نفسها، وكان واضحاً أن التحرك العربي على سلامته في الأزمة اللبنانية قد اصطدم بإرادة دولية ترى أن أوان الحل لم يأتِ بعد، وتكفل ممثلوها في الداخل اللبناني بإفساد كل خطط هذا الحل، على الرغم مما بدا من أن القوى السياسية الرئيسة في لبنان تريد حلاً، وهكذا لم تخرج قمة الرياض سوى بموقف متوازن من مسألة المحكمة الدولية: قبول لها في ظل توافق لبناني بعيداً عن الانتقام والتسييس، وفرق كبير بين الموقف من أزمة وبين حلها. أيكون تقييم قمة الرياض انطلاقاً من المواقف التي تبنتها قراراتها؟ لاشك أن ذلك يضعها في موقف صعب، فعدد من هذه القرارات ذات الصلة بقضايا عربية بالغة الخطورة كالقضيتين الفلسطينية والعراقية جاء دون المستوى المطلوب، وإن كان هذا للأمانة متوقعاً قبل القمة بالنظر إلى الهجوم الدبلوماسي الإسرائيلي- الأميركي واسع النطاق قبيل انعقادها، فعلى صعيد إسرائيل أطلق رئيس وزرائها ووزيرة خارجيته رسائل مؤداها استعداد إسرائيل للتفاوض استناداً إلى المبادرة العربية شرط تعديلها، وكان من شأن تعديلها إسرائيلياً أن تصبح كأعجاز نخل خاوية. وهكذا شغلت قمة الرياض بالدفاع عن المبادرة العربية والتمسك بها، وهو موقف جيد دون شك، لكنه لا يمثل خطوة إلى الأمام، فليس مؤكداً أن يكون قرار قمة الرياض نقطة بداية لتفعيل المبادرة التي أكملت الخمس سنوات من عمرها دون أن تتحرك قيد أنملة على طريق التنفيذ، فضلاً عن أن أية مفاوضات عربية-إسرائيلية بشأن المبادرة بفرض حدوثها ستواجه مسائل شائكة بلا حدود قد لا يكون ثمة مجال للحديث عنها تفصيلاً في السياق الراهن. ومن ناحية أخرى بدا موقف القمة ملتبساً من قضية الحصار على فلسطين، فقد أشار القرار ذو الصلة إلى تعبير غامض نوعاً ما بشأن هذا الحصار، وهو "رفض (أي الدول العربية) التعامل مع إجراءات الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني بكافة مظاهره". ولا يعرف المرء ماذا يعني هذا التعبير تحديداً لأن المطلوب موقف صريح من الحصار: نقبله أو نكسره، خاصة وأن الأمين العام للجامعة كان أكثر من واضح في المؤتمر الصحفي الذي أعقب القمة: "من الآن لن نلتزم بحصار ضد شعب عربي"، فهل يقرأ القرار الغامض للقمة على ضوء هذا التصريح؟ مع أنه لا يوجد ما يشجع على هذا، خاصة وأننا لم نسمع عن أية إجراءات عربية فورية لكسر الحصار على فلسطين. نال العراق أيضاً نصيبه من قيود الواقع. كانت الإدارة الأميركية قد استبقت القمة بمؤتمر بغداد الذي انعقد في العاشر من مارس الماضي، والذي بدا وكأنه يدشن نهجاً جديداً للتعامل مع المسألة العراقية، بتمثيل قوى إقليمية يفترض أن تلك الإدارة تعتبرها معادية لسياستها في العراق وهي سوريا وإيران، وكان متوقعاً منذ البداية أن يكون لهذا المؤتمر تأثيره "الملطَّف" على موقف القمة من العراق الذي هو أصلاً بالغ الاعتدال منذ قبلت الحكومة العراقية في ظل الاحتلال ممثلة للعراق في جامعة الدول العربية اعتباراً من سبتمبر2003. وعندما استخدم الملك عبدالله بن عبد =العزيز في كلمته الافتتاحية للقمة تعبير "الاحتلال الأجنبي غير المشروع" لوصف الوجود العسكري الأميركي في العراق راود البعض الأمل في أن تتبنى القمة موقفاً أكثر صرامة تجاه ما يجري في العراق، لكن قيود الواقع انتصرت مرة أخرى، وانصبت قرارات القمة على تحسين شروط العملية السياسية دون أن تقترب من جوهر المسألة وهو "الاحتلال الأجنبي غير المشروع" وفقاً لتعبير رئيس القمة. لا يعني هذا بطبيعة الحال أن قمة الرياض لم تأتِ بجديد، أو أنه لم يكن فيها ما يميزها عن غيرها. ونلاحظ بداية أنها تميزت عن سابقتها في الخرطوم بزيادة عدد الرؤساء والملوك والأمراء الذين حضروها من ثلاثة عشر في قمة الخرطوم إلى سبعة عشر في قمة الرياض، كما أن مشكلة الازدواجية في التمثيل التي عانت منها قمة الخرطوم في حالتي فلسطين ولبنان تقلصت في قمة الرياض بحيث باتت مقتصرة على الحالة اللبنانية فقط، بعد أن حضر رئيس الوزراء الفلسطيني جنباً إلى جنب مع رئيس السلطة الفلسطينية دون تباين في الرؤى والسياسات، على العكس من الحالة اللبنانية. لكن الأمر لم يقتصر عند هذه المؤشرات التي قد يراها البعض شكلية، وهي في واقع الأمر ليست كذلك، فقد تميزت قمة الرياض بأن أعمالاً مهمة تمت على هامشها، كإنجاز المصالحة السورية-السعودية، وتأكيد عودة العلاقات المصرية- السورية إلى مسارها الطبيعي. كذلك عقدت اجتماعات جانبية مهمة في قضيتي السودان والصومال، ضمت في الحالة الأولى بالإضافة إلى السودان والسعودية كلاً من أمين عام الأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي وأمين عام جامعة الدول العربية، وضمت في الحالة الصومالية بالإضافة إلى الأطراف السابقة أمين عام المؤتمر الإسلامي والممثل الأعلى للسياسات الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي ووزير خارجية كينيا، وبقدر ما تعكس هذه الاجتماعات واقعية مسؤولة تسلم بوجود أطراف إقليمية وعالمية مؤثرة في القضايا العربية فإنها في الوقت نفسه تؤكد على أن الزمام العربي لم يعد قادراً وحده على التحكم في مسار هذه القضايا، وهي مسألة لابد من العمل على مواجهتها وإلا تزايدت "أقلمة" و"تدويل" المشكلات العربية. غير أن قمة الرياض تبنت مواقف لافتة من قضايا بالغة الأهمية تتعلق بالمستقبل العربي كقضايا الهوية والتعليم والبحث العلمي، ودعت إلى إجراءات غير مسبوقة في بعض المجالات المهمة كدعوتها إلى قمة تعقد خصيصاً لمناقشة القضايا الاقتصادية، ومطالبتها بمراجعة السياسات العربية من مسألة إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل بصفة عامة، وتقييم مردود هذه السياسات، واقتراح سياسات بديلة، فيما يعد تلميحاً واضحاً إلى أن الدول العربية قد تتخلى عن المطالبة الدبلوماسية العاجزة بإخلاء منطقة الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل وتتبنى نهج بناء قدرة نووية عربية خاصة وقد حفل قرار القمة في هذا الصدد بالدعوة إلى زيادة الاستخدامات السلمية للطاقة النووية، ودعم الهيئة العربية للطاقة الذرية. ومثل هذه القرارات التي تعد نقلة بالنسبة لمواقف القمم السابقة تنتظر مصيرها من المصداقية التي أشار إليها الملك عبدالله في كلمته الافتتاحية، فإن وضعت على طريق التنفيذ ولو جزئياً أصبح من حقنا أن نتنسم رياح الأمل، وإن بقيت مجرد كلمات تكون سطوراً على صفحات من ورق بات واضحاً أن قيود الواقع ما زالت هي صاحبة اليد الطولى فيما يجري على الأرض العربية.