تحصيل حاصل هي الاستطلاعات التي أجرتها وسائل إعلام عدة مرئية ومقروءة حول مدى اهتمام المواطن العربي بقمة الرياض. فلا يحتاج الأمر إلى أي استطلاع لنعرف أن هذا المواطن لم يهتم بالقمة الأخيرة، كما بسابقاتها، وأنه لا يعنى بالأحداث السياسية سواء في بلده أو في المنطقة إلا إذا كان لها أثر مباشر وفوري عليه. ولذلك يبدو أن الأكثر اهتماماً بهذه الأحداث في العالم العربي الآن، إلى جانب الفلسطينيين المرغمين على ذلك، هم العراقيون واللبنانيون الذين تختلط السياسة لديهم بالدين والطائفة والمذهب والعرق والعشيرة. ولذلك لم تكذب الاستطلاعات التي أظهرت لامبالاة معظم المستطلعين تجاه القمة العربية، أو عدم اهتمامهم بها، أو يأسهم من أن تكون لها نتائج يشعرون بها. ولا يعني ذلك أن قمة الرياض خلت مما يثير اهتمام المواطن في هذا البلد أو ذاك من بلاد الأمة، وهي التي عُقدت في لحظة فارقة بالنسبة إلى مستقبل العرب ومنطقة الشرق الأوسط في عمومها. فالظروف التي أحاطت بهذه القمة كانت في حد ذاتها كافية لإضفاء أهمية خاصة عليها بغض النظر عن نتائجها. والأحداث العاصفة التي حصلت في الفترة بين قمة الخرطوم 2006 وقمة الرياض 2007، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية على لبنان وما خلفته من انقسام عربي، كانت أكثر من كافية لإثارة الاهتمام بالقمم المصغرة التي عُقدت خلال وجود القادة العرب في الرياض. فبعض هؤلاء القادة باعدت بينهم المسافات السياسية منذ حرب الصيف الماضي، مثل العاهل السعودي والرئيس المصري من ناحية والرئيس السوري من ناحية أخرى. فكان مفترضاً أن يكون سلوك هؤلاء القادة تجاه بعضهم بعضاً في اللقاء الأول بينهم منذ شهور طويلة مثيراً للاهتمام، أو حتى الفضول، وخصوصاً كيفية تعامل الرئيس بشار الأسد مع قادة عرب ذهب إلى أبعد مدى في هجائهم في خطاب مشهور ألقاه فور وقف إطلاق النار في لبنان في أغسطس الماضي، واستخدم فيه لغة كانت قد باتت مهجورة في التعبير عن الخلافات العربية منذ أواخر ستينيات القرن الماضي. وهذه "لقطة" كان يفترض أن تثير فضولاً حتى في أوساط من لا يجدون في مؤتمرات القمة العربية ما يؤثر أو ينعكس بشكل مباشر عليهم. وحين لا يحدث ذلك، لابد أن يكون هناك خطأ، بل ربما خطيئة، في العلاقة بين المواطن العربي والشأن العام في مجمله، وليس فقط أمور السياسة وما يتصل بها أو يتفرع عنها. وإذا صح أن المشكلة لم تكن في القمة، وهو صحيح، فمن الصعب أيضاً أن نجدها في المواطن الذي لم يبالِ بهذه القمة أو يعيرها انتباهاً. فالمشكلة، التي تخلق هذه الفجوة الهائلة بين المواطن والشأن العام هي في نوع النظم السياسية في بلادنا أكثر مما هي في النظام الإقليمي العربي، بالرغم من أنه هو حاصل جمع هذه النظم. فالعلاقة السلبية بين المواطن والنظام السياسي في هذا البلد العربي أو ذاك، هي التي تجعل هذا المواطن عازفاً عن كل، أو على الأقل كثير من، التحركات الرسمية. فهو يشعر بأنه رقم مهمل لا يشارك في صنع سياسات بلده ولا مستقبل أمته. وهو إما بلا صوت سياسي، أو بصوت لا يؤثر ولا يغيّر أو يبدّل. ولذلك سيبقى المواطن العربي في الأغلب الأعم غير مبالٍ بمؤتمرات القمة إلى أن يحدث ما يدفعه إلى الاهتمام بالشأن العام في بلده عبر إصلاحات سياسية توفر قنوات مشاركة جديدة أو توسع قنوات موجودة ولكنها ضيقة أو مسدودة. وكان هناك ما يبعث على الأمل في شيء من ذلك قبل عدة سنوات، وخصوصاً في الفترة من 2003 إلى أواخر 2005 وأوائل 2006. ولكن هذا الأمل يتراجع الآن أو ينحسر. ومؤشرات ذلك كثيرة. ولكن أهم ما يتصل منها بمؤتمرات القمة العربية هو ما آل إليه في قمة الرياض حال (مسيرة التطوير والتحديث والإصلاح في الوطن العربي) التي أُطلقت في قمة تونس عام 2004، في صورة إعلان مبادئ بشأن الإصلاحات السياسية والقانونية والاجتماعية اللازمة في بلادنا، حيث أشارت إلى مبادئ الديمقراطية والشورى والمشاركة والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان والمجتمع المدني ودور المرأة وتطوير المعرفة، وهي في مجملها المبادئ التي يدعو إليها المطالبون بالإصلاح الديمقراطي منذ عقود. ومن لم يصب بعد بضعف الذاكرة السياسية الشائع في أمتنا، فلابد أنه يذكر كيف وُلدت تلك الوثيقة ومعها (وثيقة العهد والإصلاح) بعد مخاض عسير أسفر عن ولادة متأخرة بسبب خلافات أجلت عقد قمة تونس لنحو شهرين. ومع ذلك كان إقرار وثيقة من هذا النوع، وبمثل هذا المضمون، في إطار العمل العربي المشترك للمرة الأولى دافعاً للتفاؤل بتطور تدريجي نحو الإصلاح الديمقراطي قد يكون بطيئاً ولكنه متواصل في اتجاه واحد وليس متأرجحاً بين خطوة إلى الأمام وأخرى أو أكثر إلى الوراء. ولكن سرعان ما تبين أن الرسالة التي تنطوي عليها الوثيقة ليست موجهة في الأغلب الأعم إلى من يعنيه الأمر في المقام الأول، وهو المواطن العربي، ولا تستهدف صوغ عقد اجتماعي جديد بين الحكام والمحكومين في بلاد أمتنا. فقليلة جداً هي هذه البلاد التي وافقت على إقرار الوثيقة في إطار اهتمامها بالشروع في إصلاح نظمها السياسية والاجتماعية. ولذلك كان الاتجاه السائد وراء إقرار الوثيقة يرمي إلى توجيه رسالة إلى من لا يعنيه الأمر، وهو "السيد الأميركي" الذي اشتدت هجمته على المنطقة في ذلك الوقت معتقداً أن الأمور دانت له بعد نجاحه في إسقاط النظام العراقي السابق، وقبل أن يتحول هذا النجاح إلى فشل استراتيجي ذريع يجعله في حاجة إلى مساعدة الدول التي كان يتطلع إلى إحداث تغيير كبير فيها. ولأن من يطلب المساعدة لا يفرض شروطاً، فقد تراجعت الهجمة "الديمقراطية" الأميركية التي دفعت إلى إصدار (وثيقة التطوير والتحديث والإصلاح). ولذلك لم يعد من وُجهت إليه الرسالة المتضمنة في هذه الوثيقة معنياً بها إلا على صعيد خطابه الموجه للاستهلاك الداخلي. ولذلك لم يجد من وجهوا هذه الرسالة إليه، وليس إلى المواطن العربي، ما يدفعهم إلى الحفاظ حتى على إصلاحات طفيفة أقدموا عليها في فترة إقرار الوثيقة، فتراجعوا عنها كما حدث مثلاً في مصر التي كانت إحدى مؤسساتها (مكتبة الإسكندرية) قد احتضنت وثيقة موازية قيل إنها تعبر عن المجتمع المدني وأُطلق عليها (وثيقة الإسكندرية) عام 2004 أيضاً. ومثلما أغلق التعديل الدستوري المصري الذي تم الاستفتاء عليه في 26 مارس الماضي باب الأمل في الإصلاح الديمقراطي, بدا المؤتمر الذي عُقد في الشهر نفسه لمتابعة الحوار حول (وثيقة الإسكندرية) كما لو كان تشييعاً لها إلى مثواها الأخير. وهكذا لم يكن مصير وثيقة المجتمع المدني أفضل حالاً من الوثيقة الرسمية (وثيقة التطوير والتحديث والإصلاح)، التي تحولت إلى ورقة في أدراج الأمانة العامة للجامعة العربية التي تتلقى من بعض الدول الأعضاء تقارير متابعة دورية بشأنها تمثل نموذجاً لقدرة البيروقراطية العربية على تفريغ أي شيء من مضمونه. وربما لو كانت الدول العربية أخذت هذه الوثيقة بجدية لأصبح للمواطن شأن آخر مع قمة الرياض والقمم المقبلة.