أشاعت قمة الرياض، بلاشك، مناخاً عربياً جديداً، هناك عمل سبقها وعمل سيتبعها لترجمة ذلك المناخ في تغيير ملموس على أرض الأزمات الخمسين التي يعيشها العالم العربي، والمهمة كبيرة تتطلب كل جهد وكل مساهمة جادة. لم يكن متوقعاً من هذه القمة، ولا من أي قمة مماثلة، أن تقدم حلولاً جاهزة لأي مشكلة، فهذا النوع من اللقاءات له وظيفة واحدة هي أن يجدد إرادة ورغبة الدول العربية في البقاء في هذا الإطار الذي يجمعها، أما الفاعلية والإنجاز فيتوقفان على مدى التنسيق والالتزام. كان واضحاً في كلام العاهل السعودي، أن حال الأمة من حال الخلافات في ما بين أبنائها، وما دامت الخلافات قائمة، فعبثاً البحث عن عمل عربي مشترك فاعل، ويمكن الركون إليه والاعتماد عليه. كان واضحاً أيضاً أن الأسرة العربية كسبت على مضض، وعلى الرغم منها، عضواً إضافياً أصبح في داخلها يعبث بشؤونها وله كلمة ودور في خياراتها، تارة يمارس السلبية وتارة أخرى الإيجابية، وطوراً يوحي أنه في صدد حل العُقد، لكنه غالباً ما يمضي في تعقيدها. إنه الولايات المتحدة المتربعة كقوة احتلال في قلب العالم العربي، تحديداً في العراق، ومنه تتمدد للتدخل في كل مكان وفي أي شأن. هذا العضو الإضافي كان الحاضر الغائب في القمة العربية، كان يراهن عليها أن تنقذه من ورطته، وكانت تتوقع منه أن يتوصل إلى اختراق ما مع إسرائيل، لكنه لم يبدُ جاهزاً لخطوة شجاعة كهذه، على عكس ما أوصى به طوال الأسابيع الأخيرة. خيبة أمل! لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، هناك طبائع متراكمة تجعل الأميركي مقتنعاً بل مندفعاً لإخضاع المنطقة للأجندة الإسرائيلية ولنزواتها. حتى عندما يكون الهاجس الأمني غالباً، بل تكون هناك مصلحة أميركية واضحة، فإن الأولوية تبقى للحليف الإسرائيلي على حساب الحلفاء العرب، ولو أن العرب هم الذين خذلوا واشنطن، لما تأخرت هذه بالتهديد والوعيد، فضلاً عن التأنيب وحتى الانتقام، أما حين يأتي الخذلان من إسرائيل فهو مقبول ومفهوم. كل ذلك نعرفه، بل عرفناه حتى الملل، ولا يبدو أن ثمة سبيلاً لتغييره، إلى حد أن العرب لم يعودوا يفكرون بمجرد المحاولة. ماذا عن مبادرة السلام؟ إنها إقرار عربي رسمي بأن الخيار العسكري طوي نهائياً، إلى حد تأثيم المقاومة واتهام الممانعة واعتبارها من قبيل المغامرة حتى لو استطاعت أن تحقق إرباكاً غير مسبوق لإسرائيل. والمبادرة مشروع علني بالغ الوضوح يترجم شعار "السلام كخيار استراتيجي" اعتنقه العرب، الجدّيون منهم والمزايدون والغوغائيون، لم يقابل إلا بالرفض من جانب إسرائيل، ويصعب القول إنه لاقى قبولاً صريحاً من جانب الولايات المتحدة، أما الأوروبيون فإنهم يقبلونه أو يتجاهلونه وفقاً للظروف وللضغوط الأميركية. الآن، طرح مشروع لـ"تفعيل" المبادرة من خلال "الرباعيتين" الدولية والعربية، لكن إسرائيل تستصعب السير بالمبادرة لأسباب أهمها: أنها تستبعد كلياً الاعتراف بخط 1967 كحدود للانسحاب، وتستبعد حق العودة من حيث المبدأ لأنه يرتب عليها تبعات قانونية وأخلاقية، كما تستبعد فكرة القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية المرتقبة، هذا إذا كانت تعترف أصلاً بـ"حل الدولتين". وطالما أنها لم ترد على المبادرة العربية بمبادرة مضادة، فلا يعني ذلك سوى أنها لا تملك استراتيجية سلمية ولا ترى مصلحة في السلام. إنها تريد من العرب اعترافاً وتطبيعاً على قاعدة ما حققته من احتلال وإجرام نخرا في وجدان المنطقة وشوّها حاضرها ويسعيان إلى مصادرة مستقبلها. لابد أن يكون هناك رد عربي على الرفض الإسرائيلي، بأي وسيلة ممكنة، وبأي أوراق متوفرة، لأن الانتظار وحده لا يشكل سياسة مجدية، وسيتعذر أي ردّ عربي إذا افتقد الالتزام والتضامن. وإذا كانت سوابق الثنائي الأميركي- الإسرائيلي لا تعد ببدائل عقلانية، فإن هذا الثنائي المتورط في المأزق العراقي- الإيراني لن يجد سوى الوسيلة التقليدية، أي انتزاع التنازلات العربية قطعة قطعة، لضرب ما برز أخيراً من تضامن. صحيح أن طبيعة المرحلة قد لا تمكن الثنائي الأميركي- الإسرائيلي من تحقيق أغراضه بسهولة، إلا أن طبيعة المخاطر والمخاوف قد تمكنه من ترهيب أو ترغيب هذا وذاك، ومتى كان التضامن واهياً لن يعدم الابتزاز وسيلة.