مازال "جاري كاسباروف" يحتفظ بابتسامته الطفولية، رغم الشيب الذي بدأ يغزو شعره المتموِّج. ومازال البطل السابق الذي سيطر على اللقب العالمي للعبة الشطرنج لأكثر من عقدين من الزمن يمتلك حضوراً آسراً وطاقة لا تنضب. لكن منذ أن قرر الاعتزال قبل سنتين وهو يخوض غمار معركة جديدة تعتمد أقل على المجهود العقلي وأكثر على قوة الشكيمة، لاسيما عندما يتعلق الأمر بالسياسة في روسيا. وباعتباره رئيس الجبهة المدنية الموحدة المعارضة ذات الميول الليبرالية، وزعيم تحالف مناوئ للكرملين يطلق على نفسه "روسيا الأخرى" يستميت كاسباروف في الترويج لاستراتيجية خطرة تسعى إلى مواجهة ما يسميه بـ"الدولة البوليسية" التي أقامها الرئيس فلاديمير بوتين من خلال الوسائل السلمية، حتى ولو اتخذت شكل الاحتجاجات المدنية غير القانونية. والهدف، كما يقول كاسباروف، هو إرغام الكرملين على التخلي عن خططه الرامية إلى تأمين عملية موجهة ومراقبة لمن سيخلف الرئيس بوتين في العام المقبل، وفتح الطريق أمام عملية حرة ونزيهة لاختيار قائد روسيا الجديد. ويُعبر "كاسباروف" عن ذلك بقوله: "عندما يتعرض الملك في لعبة الشطرنج للهجوم فإنه يتعين عليك الدفاع عنه"، لذا فبعد أن عدد "كاسباروف" الأخطار التي يعتقد أنها تهدد الديمقراطية في روسيا تابع قائلاً: "لقد حاولنا فعل شيء ما فقمنا بإنشاء روسيا الجديدة ونجحنا". فحسب لاعب الشطرنج الأشهر في العالم "تغلي روسيا بالاضطرابات بسبب الفوارق الاقتصادية المتصاعدة، رغم مظاهر الاستقرار التي تبدو على السطح. والطريق الوحيدة للخروج من هذا الوضع هي تنظيم انتخابات حقيقية، وحرة". وفي هذا الإطار قام حوالي خمسة آلاف متظاهر في مدينة سانت بطرسبورج بالتجمهر وسط المدينة مطلع شهر مارس الماضي، واكتسحوا الطوق الذي ضربه رجال الشرطة متجهين إلى "ساحة القصر" التي كانت شاهداً على الثورة الروسية قبل تسعين عاماً. وطيلة المظاهرة الحاشدة رفع المشاركون شعارات تنادي بالحرية وتدعو بوتين إلى الرحيل، حيث تم اعتقال العشرات دون أن يمنع ذلك كاسبروف من اعتبار المظاهرة أكبر مسيرة احتجاجية تشهدها روسيا في الفترة الأخيرة. وفي مظاهرة أخرى نظمت في مدينة "فولجا" أواخر شهر مارس الماضي تدخل الآلاف من رجال الشرطة مدعومين بمروحيات لمنع وصول المحتجين إلى وسط المدينة دون أن يضعف ذلك من عزيمة قوى المعارضة بزعامة كاسباروف التي تعتزم تنظيم مسيرة احتجاجية أخرى بموسكو في 14 أبريل الجاري. ويعزو كاسباروف التدخل المكثف لرجال الشرطة ضد المظاهرات إلى "أن النظام لم يألف وجود معارضة قوية، لذا فهو يرتبك حتى أمام الاحتجاجات الصغيرة"، ويتابع كاسباروف معلقاً على تدخل الشرطة ضد المظاهرات "إن النظام القوي لا يلجأ إلى الآلاف من رجال الشرطة لإخماد مظاهرة سلمية، ويبدو أن ردة فعلهم المبالغ فيها تظهر فقط مدى ضعفهم". وقد استرعى تحرك كاسباروف انتباه المراقبين، كما أثار جدلاً واسعاً بسبب جمعه بين قوى سياسية مختلفة الاتجاهات والمشارب ضمن تجمع روسيا الأخرى. ويشمل هذا التجمع كلاً من حزب "عمال روسيا" الشيوعي، والحزب "البلشفي الوطني" اليساري، وحزب "الاتحاد الشعبي الديمقراطي" الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق "ميخائيل كاسيانوف"، فضلاً عن أتباع كاسباروف المدافعين عن الديمقراطية. ويؤكد كاسباروف أن هدفه هو إشراك الحزب الشيوعي باعتباره آخر معاقل المعارضة القائمة حالياً. وحول هذا التجمع المعارض للكرملين يقول: "سيرجي ميخييف"، مدير مركز التكنولوجيا السياسية في موسكو "إن هذه الخطة الرامية إلى جمع القوى الحية المعارضة تبدو جيدة، لكنني أشك في فرص نجاحها، ذلك أني لا أفهم لماذا ترك كاسباروف لعبة الشطرنج واتجه إلى السياسة، لقد أهدر السمعة الطيبة التي كان يتمتع بها". غير أن كاسباروف يؤكد أن الكرملين يشهد انقساماً بين أركانه على خلفية إصرار بوتين على مغادرة منصبه في السنة المقبلة، مع ما يولده ذلك من صراعات داخلية حول من يخلفه على رأس الكرملين. هذه الصراعات الداخلية، في رأي كاسباروف، ستوفر الفرصة للعمل الديمقراطي في روسيا، موضحاً وجهة نظره بقوله "إذا استطعنا الحفاظ على وحدة قوى المعارضة في وقت يتفكك فيه الكرملين... قد يتطور النظام وبصورة دراماتيكية. وأعتقد أن روسيا ستشهد اضطرابات سياسية مع نهاية السنة الحالية". من ناحيته طالب "سيرجي ميرونوف"، المتحدث باسم البرلمان الروسي وزعيم حزب "روسيا العادلة" المساند للكرملين خلال الأسبوع الماضي بالنظر في إمكانية تغيير الدستور للسماح لبوتين بالترشيح لولاية ثالثة، لكن رد الكرملين جاء قاطعاً على لسان متحدث رسمي أكد أن بوتين لن يترشح مجدداً. وقد أعلن كاسباروف في هذا السياق أن المؤتمر القادم لتجمع "روسيا الأخرى" الذي سيعقد في شهر يوليو المقبل سيختار مرشحاً موحداً يمثل المعارضة لخوض غمار الانتخابات الرئاسية التي ستجري في شهر مارس من العام القادم. ومع أن كاسباروف امتنع عن تحديد أسماء، إلا أنه أكد عدم ترشيحه لنفسه لأنه لا يريد المس بدوره كـ"وسيط" بين المجموعات المختلفة التي تشكل التحالف المعارض للكرملين. وللتدليل على أن روسيا تحولت إلى دولة بوليسية يشير كاسباروف إلى اللجنة التي شكلها الكرملين وتدعى "اللجنة الوطنية لمكافحة الإرهاب"، هي جهاز أمني سري يتم توظيفه لقمع المعارضة. ويقول في هذا الصدد " بموجب القانون الروسي الحالي فإن أي شخص قد تلصق به تهمة التطرف. فبالنسبة لهذا النظام التطرف يساوي الإرهاب، وكلما نظمنا نشاطاً، أو مظاهرة يتعرض الناشطون المعارضون لملاحقة الشرطة السرية". فريد واير مراسل "كريستيان ساينس مونيتور" في موسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"