لا مال يعوض عن فظاعة ما يجري الكشف عنه خلال التحقيقات العامة الجارية الآن، في مركز مستشفى "والتر ريد" الطبي، ووزارة شؤون قدامى المحاربين. وإنه لمما يكسر الخاطر أن تستمع لأولئك الجنود الشباب العائدين من العراق، وقد تلعثمت كلماتهم وشق عليهم التعبير عن أنفسهم، بسب إصابات تعرضوا لها في الرأس، عندما يتحدثون إليك عن سوء وإذلال المعاملة التي تعرضوا لها في المرافق الطبية التابعة لشؤون قدامى المحاربين. ولم تمضِ سوى بضعة أسابيع، حتى انتحر أحد الجنود الجرحى العائدين من العراق، بعد أن نفد صبره من طول الانتظار في صفوف العيادات الخارجية لأحد مراكز الصحة العقلية والنفسية. والحق أن كل جندي مصابٌ إنما يمثل مثلثاً مركباً من المعاناة، مع روح الجندي المحارب فيه أولاً، ثم مع عائلته وأصدقائه، وصولاً إلى المجتمع الواسع العريض بأسره، في الثلث الأخير من المعاناة. وما أن يصاب أي واحد من جنودنا، فإن الضرر لا يخصه وحده، ولا أسرته ومحبيه فحسب، وإنما يطالنا جميعاً. فكيف لنا إذن أن نصحح الوضع الحالي المعطوب؟ ليست الإجابة سهلة البتة، لكونها تتطلب فهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذا الإهمال القاسي اللاإنساني لجنودنا الجرحى والمصابين في الأساس. ومن أسف أن لسوء معالجة مصابينا الحربيين، تاريخاً طويلاً لا يعود إلى ما شهده مستشفى "والتر ريد" وحده. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الجميع يكاد يعرف قصة سوء معاملة جنودنا المصابين في حرب فيتنام. أما اليوم، فلا شيء أبلغ من عبقرية الشاعر المسرحي الإغريقي سوفوكليس، في التعبير عن مأساة جنودنا الجرحى هذه. ففي إحدى مسرحياته التي تعود إلى ما يربو على ألفي عام، عبّر أحد ابطاله "فيلوكتيتس" عن حالة البطل الحربي الجريح بقوله: "كيف لنا أن نستعيد للجندي المصاب كامل إنسانيته التي شوهتها الحرب؟ فبعد كل المآسي المروعة الفظيعة التي تعرض لها، هل يحق لنا أو لمجتمعنا أن نهمله ونلقيه جانباً؟ وكان فيلوكتيتس، صديقاً عظيماً وفياً للبطل الإغريقي هرقل، وقد أصيب بجرح لا يبرأ، سببته له أفعى مقدسة، أرسلتها له الإلهة "هيرا". وكانت معاناته من ذلك الجرح لا تحتمل. أما "هيرا" فقد كان قصدها من إصابة فيلوكتيتس بذلك الجرح، منع الإغريق من الفوز بحرب طروادة بواسطة استخدام قوس هرقل السحري، الذي كان قد أعطاه وهو في فراش الموت، لصديقه الوفي فيلوكتيتس. وبدلاً من أن يعينه زملاؤه الجنود الإغريق ويخففوا عنه عذابات جرحه، رموا به وتركوه وحده في جزيرة "ليمنوس" النائية في بحر إيجة. فما كان هناك من أحد يستمع ِإلى أنينه وعذابه. وفي الحقيقة فقد كان ذلك الأنين يخفي وراءه سحر القوس الذي كان يحمله، لكونه الوسيلة الوحيدة لإنقاذ الإغريق، ووضع حد لحرب طروادة. ولم يكتشف الجنود الإغريق هذه الحقيقة، إلا بعد مضي تسع سنوات كاملة على الحرب، فذهبوا يبحثون عن زميلهم الذي رموه في تلك الجزيرة النائية ليسرقوا منه القوس السحري. وكما قال أوديسيوس، فما من شيء يهزم طروادة سوى قوس هرقل. ولكن المشكلة أن القوس لا قيمة له، دون أن يرمي سهمه المحارب فيلوكتيتس نفسه! واليوم وبالمقارنة، فلا شيء يحفظ ماء وجهنا في العراق سوى جنودنا، الذين نلقي بهم بعيداً في العيادات الخارجية النائية المعطوبة، لمرافق الخدمة الصحية لقدامى المحاربين، سواء كانت هذه في مستشفى "والتر ريد" أم غيره. بل الصحيح أن إهمالنا لمأساة هؤلاء الجنود قد بدأ منذ فرض الرقابة الصارمة وتحريم نشر صور المصابين والقتلى الذين تعود توابيتهم بالعشرات، منذ بدء الحرب. وعلى الصحافة يقع جزء من اللوم على إهمال مأساة هؤلاء الجنود، بالنظر إلى شح ما تنشره عنهم من أخبار. وشأننا شأن قدامى المحاربين الإغريق، فقد حاولنا سرقة القوس السحري، مع ترك المحارب العظيم فيلوكتيتس يئن ويعاني وحيداً في الجزر النائية المهجورة. فما أحوجنا اليوم جميعاً، إلى محارب قديم من ذلك الطراز، ليوقظ في أمتنا ضميرها النائم عن مأساة جنودها ومحاربيها! ــــــــــــــــــــــ مدير برنامج صدمة اللاجئين بجامعة هارفارد ــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"