"الخليج يمرّ بأزمة خطيرة"، و"الخليج يشهد تواجداً كثيفاً لقواتٍ عسكريّة"، "مناوراتٌ هنا ومفاوضاتٌ هناك"، "تهديد باستخدام القوّة، يقابله تحدٍّ صلب وعنادٌ صارم"، هذه العبارات والمصطلحات تكاد تكون جزءاً من الذاكرة السياسية للأجيال المعاصرة من مواطني الخليج العربي. كم تكررت هذه العبارات على أسماعنا، سمعناها حدَّ الملل، مع قرع طبول الحرب العراقية- الإيرانية التي طغت على عقد الثمانينيات، وأصغينا إليها مع حرب الخليج الثانية والغزو العراقي للكويت في التسعينيات، وعادت إلينا مع الاحتلال الأميركي للعراق في بداية الألفية الجديدة. وها نحن اليوم نسمع هذه العبارات تجرجر أذيالها على مسامعنا وعقولنا وقلوبنا مع الملف النووي الإيراني وطموحات التوسع وبسط النفوذ للجمهورية الإسلامية في إيران. لقد كانت كل تلك الأحداث الكبيرة والخطيرة حقاً توصل الخليج بنفطه وتنميته ومستقبل أبنائه إلى حافّة السعير، وهي تتكرر في كل عقد مرةً أو مرتين بسبب حماقات زعماء آيديولوجيين، تعشيهم الآيديولوجيا عن رؤية الحقائق على الأرض، ويغريهم زخم الجماهير الهاتفة بحماقة خلف شعارات الزعماء الأفذاذ!، وهؤلاء الزعماء يوظفون السياسة والدين والاقتصاد والأفكار والعقائد والمفاهيم لإشعال المنطقة بأسرها خلف مشاريع أثبت التاريخ والتجارب مع الحقائق الواقعية على الأرض أنها أوهى من بيت العنكبوت، وأنها كسرابٍ بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. لا يكاد غمام تلك الحروب والأزمات ينعقد، حتى يجلب "البعض" بخيله ورجله لإذكاء الفتنة وصب الزيت على نارها، يتدثر -زوراً- برداء "التحليل العلمي" مرةً، ويتخفى أخرى خلف ثوب "المراقب الاستراتيجي"، ويتزيى ثالثة بزي النذير العريان الذي ينذر الناس ويبشرهم بمرويِّات آخر الزمان التي ينزلها بعشوائية على الواقع ليخدم أهدافه ومصالحه، دون أن يخطر له حجم الضرر الذي يلحقه بالدين الذي ينتسب إليه بمثل هذه العشوائية وهذا التعسف. هذه الشريحة من المحللين والمراقبين والمنذرين يتوزعون على خريطة العالم والأفكار والأديان والآيديولوجيات، وقد يختلفون حدّ التناقض، ولكن مآل إيصال الأزمات لحدّها الأقصى يظل الجامع بينهم، مهما اختلفت مواقعهم وأهدافهم. في الأزمة الراهنة قرأت في بعض الصحف العربية نصاً غريباً تقول فيه الصحفية: "أكد مراقبون استراتيجيون أنه من الممكن أن يدفع حلّ أزمة الملف النووي لكوريا الشمالية بالطرق الدبلوماسية، الولايات المتحدة والدول الأوروبية إلى الإسراع في الخطوات تجاه مائدة المفاوضات مع إيران من أجل التوصل إلى حلٍ مماثل بشأن الملفّ النووي الإيراني". إن مراقبة الأوضاع في المنطقة وقراءة تجارب التاريخ ومعطيات الواقع تشير بصراحة إلى عكس هذا التحليل تماماً، وأن الحلّ مع كوريا قد يدفع باتجاه الإسراع في خطوات الحلّ غير السلمي للأزمة رغماً عن رغبة دول المنطقة، وها نحن نرى بأمّ أعيننا توافد الأساطيل العسكرية الغربية للمنطقة لا لبناء قوّةٍ في المنطقة تبدأ من الصفر، بل لتعزيز الوجود الكثيف السابق، وها هي صور هذه الأساطيل وهي تمخر عباب الخليج جيئة وذهاباً تعرض على المشاهدين في كلّ حين، وما يستطيع إدراكه المشاهد العادي هو أن هذه الأساطيل والقوّات -الجديدة والقديمة- لم تزحف إلى الخليج طلباً للتنزّه أو تغيير الجوّ، خصوصاً في ظلّ التصعيد الإيراني باعتقال خمسة عشر بحّاراً بريطانياً. إن إيران بهذا الاعتقال تنزع ورقة الدفاع عنها من أيدي مناصريها أو المحايدين تجاهها، وتمنح خصومها ورقة جديدة لإثارة الشكوك حول نواياها وأهدافها. إن خطاب إيران السياسي تجاه أزمة الملف النووي، وتصرفاتها في المنطقة وفي الخليج تبعث الريبة الشديدة من طموحات إيران النووية، ومن مشروعها ككل، ليس الخطابات المعاصرة فحسب، بل الخطابات منذ قيام الثورة وحتى يوم الناس هذا. عوداً على ذي بدء أؤكد أن إيران ليست كوريا، فبينهما فروق كبيرة غير ما سبق، منها على سبيل المثال أن كوريا بلدٌ فقيرٌ يعاني شعبه الأمرَّين، وإيران بلدٌ غنيٌ يمتلك احتياطياً هائلاً من النفط والغاز والموارد الأخرى. ومنها أن كوريا لديها (كوريا) أخرى هي كوريا الجنوبية، تستطيع الاتكاء عليها في بناء مشروع مشترك يضمن تنمية وتقدماً حقيقيين، وإيران لا يحيط بها إلا من تعتبرهم -هي لا هم- خصوماً وتسعى جهدها لإخافتهم من نواياها. ثم إن كوريا بلدٌ لا يمتلك إرثاً حضارياً وإمبراطورياً ضارباً في أطناب التاريخ، وإيران لديها تركةٌ ضخمة من إرثٍ حضاريٍ وإمبراطوريٍّ يجبرها على الخضوع لمنطق الكبرياء المزيّف، وتعشيها أطلاله وأحلام استعادته عن النظر والتدقيق، فتسعى جهدها لاستعادة ذلك الإرث وحمله إلى العالم ودخول القرن الجديد به. وليس هذا فحسب بل إضافة إلى ما سبق، فإن "الجيل الثالث" في كوريا هو الذي توصل إلى الحلّ بعد نزاع طويل وشاق، وبعد حروب وتجارب شديدة الألم، أما على الجانب الإيراني فإن الطبقة التي تمسك بزمام السلطة ومقاليد الأمور هي طبقة "الجيل الأول"، الجيل الذي أسقط الشاه، واقتحم السفارة الأميركية، جيل الثورة والأحلام الوردية، الجيل الذي لم تزل غشاوة النصر تعمي عينيه وتصمّ أذنيه وتسلبه القدرة العقلية على التفكير المنطقي وحساب الأرباح والخسائر، وبكلمة واحدة جيل آيديولوجي غير قادر على لعب السياسة بشروطها لا بشروط الآيديولوجيا. الدارسون لكتب التاريخ، والراصدون لتجارب البشر، والمراقبون لتفاعلات الحياة، يعلمون جميعاً مدى تأثير الثورات الناجحة على عقول أصحابها المشاركين في بنائها، فالثائرون حالمون دائماً، لا يجذبهم التفكير بقدر ما يغويهم الفعل، ولا يستهويهم تقدير الأمور بحجم ما يضلهم الإقدام، ولا يتوقفون للمراجعة والنقد والتصحيح، وهذه مقاتل الثورات في التاريخ، وليقرأ من شاء مقاتل الطالبيين وثوراتهم وثورات غيرهم في التاريخ الإسلامي. وليتصفح من أراد انتكاس الثورات في تواريخ الأمم، حين لا تؤمّن الظروف المحيطة بالثورة انتقالاً لمراكز التأثير والقيادة فيها لأجيالٍ أكثر عقلانية ووعياً، وأقلّ غرقاً في أحلام وردية وآمالٍ مستحيلة. إن لغة "الجيل الأول" للثورة الإسلامية لا تعطي مؤشراً مطمئناً لا للدول المجاورة لإيران، ولا لحلفائها أو المحايدين تجاهها، فضلاً عن أن تعطي هذا المؤشر للغرب المرتاب من تصرفات إيران وطموحاتها، فكلّ الأطراف مهما تباينت مواقفها تجتمع على أن من يمتلك مثل هذا الخطاب الثوري المؤدلج لا يمكن أن يؤتمن على مستقبل البشرية بامتلاكه السلاح النووي. السلاح النووي كلّه مخيف، بغض النظر عمّن يوجد في يده، والحدّ من انتشاره ضرورة بشرية ملحّة في الوقت الراهن، والأمل المرغوب أن يتمّ التخلّص من أكثره لدى الدول التي امتلكته بالفعل، وبقدر ما يسعى العقلاء إلى التقليل من هذا السلاح المرعب، بقدر ما يسعى الآيديولوجيون للحصول عليه ونشره بل واستعماله، فمن يقرأ ويحلل خطابات المتطرفين داخل العالم الإسلامي وخارجه، لا يخالجه شكٌ في أن القائمين على مثل هذه الخطابات لو امتلكوا مثل هذا السلاح فإنهم لن يتورّعوا عن استخدامه طرفة عين، وتلك مأساةٌ وقى الله البشر شرها.