بين كل القمم التي شهدها النظام العربي منذ بدأ هذا التقليد في أنشاص عام 1946 قليلة هي القمم التي ارتبطت بأحداث جسام، وحاولت أن تحدث تحولاً في المسار. في بعض الأحيان تنبهت قمم عربية مبكراً لخطورة تطورات معينة، كما في قمة أنشاص 1946 التي تنبهت للخطر الصهيوني على فلسطين، وتحسبت لمواجهته، وقمتي القاهرة والإسكندرية في 1964 اللتين عقدتا على إيقاع الخطر الإسرائيلي على مياه نهر الأردن، ووضعتا الخطط بشأن التصدي له. لكن دور القمم في تلك الحالات اقتصر على التنبيه والتخطيط دون أن يفضي إلى نتائج فعلية على أرض الواقع. وعقدت قمم عربية بعد تطورات معينة، واتخذت الخطوات بشأنها، لكن تلك التطورات لم تكن محملة بمخاطر هائلة كتلك التي نراها الآن، كما في قمة القاهرة 1996 التي عقدت بعد وصول اليمين الإسرائيلي إلى الحكم وتداعياته المتوقعة على مسار عملية التسوية السلمية، وقمة القاهرة 2000 التي عقدت بعد تفجر انتفاضة الأقصى بأيام. وعقدت قمم في أعقاب تطورات إيجابية شهدها النظام العربي كقمة الجزائر 1973 التي تلت حرب أكتوبر في تلك السنة، وقمة الجزائر 1988 التي أعقبت تفجر انتفاضة الحجارة في ديسمبر1987، وعلى الرغم من القيمة الكبيرة لمواقف تلك القمم فقد وقعت الأحداث أصلاً خارجها. ومر عدد من القمم مرور الكرام. لم يشعر به أحد، ولم يترك بصمة ما على الأحداث، والأمثلة عليه عديدة بطبيعة الحال. تبقى بعد ذلك قمم فارقة لأنها تصدت لمخاطر جسيمة على النظام العربي ككل، فنجحت أحياناً، وبدا أنها كذلك في أحيان أخرى، واتبعت أسلوباً خارجاً على المألوف في أحيان ثالثة. تبرز في هذا الصدد قمة 1967 التي تلت الهزيمة القاسية التي لقيتها مصر وسوريا والأردن من جراء العدوان الإسرائيلي في تلك السنة، وقمة 1978 التي عقدت في مناخ الانشقاق الخطير الذي أصاب النظام العربي بسبب سياسة السادات الجديدة تجاه إسرائيل، وقمة 1990 التي أعقبت الغزو العراقي للكويت في تلك السنة. في قمة 1967 نجح النظام العربي في بلورة معادلة صحيحة لأمنه القومي بنيت على تصفية التناقضات العربية باعتبارها ثانوية، والتوحد في مواجهة الخطر الإسرائيلي بين من يملكون إرادة القتال لتحرير أراضيهم وتعوزهم الموارد، وبين من يمكنهم أن يفوا بحاجاتهم من هذه الموارد. وفي بغداد 1978 نجحت القمة في أن تضع خطة لحصار نهج التسوية الجديد الذي اتبعه السادات، غير أن التنفيذ قد أصابه التراخي لاحقاً، خاصة بعد التطورات التي شهدتها الحرب العراقية- الإيرانية، والتي حتمت أن تتخذ قمة عمان 1987 خطوات جادة تجاه حل معضلة الانقسام المصري-العربي لمواجهة الخطر الإيراني الجديد. أما قمة 1990 فقد كانت القمة الأولى التي توافق على مشاركة قوات أجنبية في تحرير الكويت فيما شكل سابقة أضرت بالأمن القومي العربي بغض النظر عن مبررات ذلك القرار. أين قمة الرياض من هذا كله؟ لاشك أنها تنضم بامتياز إلى شريحة القمم "غير العادية" بالمعنى السياسي لا بالمعنى القانوني، وأكاد أن أخاطر بالقول إنها أول قمة تواجه كل هذه الملفات المتفجرة في آنٍ واحد، بدءاً بالعراق وما آلت إليه أوضاعه، ومروراً بفلسطين وهواجس تثبيت الوحدة الوطنية ومواجهة التعسف الإسرائيلي، وكذلك لبنان وأزمته الداخلية المزمنة، والسودان ما بين أوضاعه الداخلية غير المستقرة وخطر التدخل الخارجي الذي تبدو دوافعه كالمعتاد مصلحية قبل أن تكون إنسانية، وانتهاءً بالصومال الذي بدا في عام 2006 وكأنه في مستهل طريق لإعادة بناء دولته الممزقة، ليشهد آخر ذلك العام تدخلاً عسكرياً إثيوبياً وأميركياً يضع مؤقتاً نهاية لتلك التطورات، وبداية لمزيد من عدم الاستقرار والعنف الناجم عن إرادة مقاومة الاحتلال الإثيوبي لدى غالبية الشعب الصومالي. فهل تكون قمة الرياض قادرة على مواجهة كل هذه التحديات وغيرها؟ لاشك أن ثمة ما يدعو للتفاؤل الحذر موضوعياً بشأن ما يمكن أن تتوصل إليه القمة، وأول العوامل الموضوعية التي تعزز هذا التفاؤل هو أن الأوضاع العربية قد تطورت على نحو بات يهدد الجميع، ولنأخذ ما يجري في العراق على سبيل المثال، إذ لم يعد التعامل العربي مع الأوضاع العراقية مسألة "أخوة عربية"، وإنما هو قبل ذلك ضرورة تحتمها مخاطر الحريق الذي اندلع في العراق، وبات يهدد جيرانه بل الوطن العربي كله. ولذلك يفضي المنطق إلى أن يتصرف القادة المجتمعون في الرياض باعتبار أنهم يدافعون عن استقرار أقطارهم وسلامتها الإقليمية قبل أن يكونوا مدافعين عن العراق. أما العامل الثاني فهو أن سياسات الخصوم الذين يحاولون الهيمنة على مجريات حياتنا قد باءت بفشل ذريع أو على الأقل عقم ملحوظ، فالورطة الأميركية في العراق أوضح من أن ينكرها أحد، خاصة بعد أن أصبحت آثارها واضحة في الساحة السياسية الداخلية الأميركية، وآخر مؤشرات ذلك موافقة مجلس النواب الأميركي منذ أيام قلائل على جدولة الانسحاب من العراق زمنياً. والخطط الأميركية الإسرائيلية تجاه لبنان منيت بإخفاق ذريع في صيف 2006، ولم ينجح التعسف الإسرائيلي والحصار الدولي لفلسطين في أن يجبر الفلسطينيين على الركوع. وما زالت الأوضاع في السودان تراوح مكانها، فيما مجريات الأمور في الصومال تنذر بمزيد من العنف وعدم الاستقرار، خاصة بعد أن اكتسبت المسألة بعداً يتعلق بالتحرر الوطني. في هذه الظروف يمكن لمبادرات عربية رشيدة أن تدخل ساحة التأثير في خريطة الأزمات العربية لو امتلكنا رؤية سليمة وإرادة مستقلة. ثالث العوامل وليس آخرها هو الدور السعودي الذي نشط حركياً، وطور نفسه من طرف إلى وسيط في التفاعلات العربية- العربية، وبالذات في أعقاب العدوان الإسرائيلي على لبنان في صيف 2006. وظني أن النخبة السعودية الحاكمة باتت تدرك المخاطر الجسيمة المحيطة بالمملكة ومنطقة الخليج بل والوطن العربي على اتساعه، وأنها –أي النخبة السعودية- اتخذت قراراً بتنشيط دورها القيادي في اتجاه محاولة درء هذه المخاطر. ولعل هذا يرتبط بعودة المملكة العربية السعودية عن قرار سابق لها بعقد القمة في شرم الشيخ، ومطالبتها بعقدها في الرياض كما هو مقرر وفق الترتيب الأبجدي للدول حسبما يقضي بروتوكول دورية القمة، لتكون قمة الرياض بذلك هي أول قمة عربية شاملة تعقد في السعودية. وأعلم أن ثمة جدلاً يجري مستتراً أحياناً وظاهراً أحياناً أخرى حول حدود الدور السعودي على ضوء شبكة العلاقات الإقليمية والعالمية للمملكة، غير أن "اتفاق مكة" قد جنبنا على الأقل الاستمرار في التردي في هوة الحرب الأهلية الفلسطينية. كما أن المسعى السعودي تجاه حل الأزمة اللبنانية اتسم بالفهم والجدية، وكلها تطورات وقعت قبل القمة بما يفيد معنى الجدية في الاستعداد لها، ومن هنا يجب أن يعطى هذا الدور فرصته بالكامل قبل المسارعة بإصدار الأحكام عليه. ليس بمقدورنا للأسف أن نتوقع من القمة اختراقات متعددة على كافة جبهات الأزمات العربية، خاصة وقد وجهت لها مجموعة من الضربات الاستباقية منها مثلاً مؤتمر بغداد في العاشر من الشهر الجاري، والذي قد يصعّب –مع مشاركة عديد من الدول العربية الفاعلة فيه- من اتخاذ قرار قوي ضد الاحتلال الأميركي للعراق على أساس أن دولاً عربية فاعلة شاركت فيه، ومن ثم وجب إعطاء الفرصة للعملية السياسية التي بدأها. ومن هذه الضربات أيضاً المطالبة الإسرائيلية بتعديل مبادرة بيروت حتى تنشغل قمة الرياض بالدفاع عن المبادرة بوضعها الراهن ولا تتجاوزها إلى ما هو أكثر منها تشدداً. لكن الأمل يبقى في أن تتبنى القمة مواقف متزنة وحازمة إزاء ما يتهدد الأمة من مخاطر، وأن تتوصل على الأقل إلى حلول لبعض الأزمات كالأزمة اللبنانية، وتأكيد لبعض التطورات الإيجابية كـ"اتفاق مكة". وليعلم القادة المشاركون في القمة أن الرأي العام العربي ينتظر قراراتهم بقدر غير يسير من فقدان الثقة في مؤسسة القمة العربية، وأن خروج القمة بقرارات دون مستوى التحديات الراهنة سيكون نذير شؤم بالنسبة للنظام العربي الرسمي والقائمين عليه.