في إطار الحراك الإصلاحي الذي تشهده مصر بعد غياب الضغط الأميركي على قضية الإصلاح الديمقراطي، وانصراف الإدارة الأميركية لمعالجة مشاكلها في المستنقع العراقي، الذي كشف عن الخطأ المنهجي في منطق فرض الإصلاح من الخارج، أضع الملاحظات التالية أمام صناع القرار في الدول العربية: لقد كشفت تجارب الإصلاح التاريخية في مصر عن الدور المركزي الذي يناط بالسلطة ومؤسسات الحكم في إطلاق عمليات الإصلاح النابع من الداخل والمستند إلى الوعي الوطني لدى الحكام بدورهم في تطوير الواقع الاجتماعي والسياسي بدافع إدراكهم لمسؤوليتهم التاريخية عن دفع الأوطان إلى مصاف الدول المتقدمة. ظهر هذا جلياً في الندوة التي دعتني صحيفة "المصري اليوم" إلى التحضير لها وإدارتها حول التراث السياسي لأحد أبرز علماء الاجتماع العرب، وهو الدكتور طه حسين الحاصل على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع السياسي من جامعة السوربون عام 1917 رغم شهرته كعميد للأدب العربي. كان الموضوع الذي طرحته ممثلاً في مقالين كتبهما طه حسين عن طبيعة الحكم والإدارة في مصر خلال الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين. في المقالين اللذين فصل بينهما مدى زمني-ثلاثة عشر عاماً- ونشرهما العميد بعنوان واحد هو "إقطاع"، كشف طه حسين عن تشخيصه لمظاهر استئثار الأحزاب المصرية التي تداولت الحكم عن طريق الانتخابات، بالمنافع العامة للدولة، واعتبر هذه المظاهر امتداداً لنظام الإقطاع القديم الذي كان الإقطاعيون فيه يملكون الأرض ويتحكمون في سكانها بسلطات مطلقة. لقد طرحت هذا التشخيص على مجموعة منتقاة من علماء الإدارة والاجتماع والتاريخ المصري الحديث، طالباً منهم تقييم رؤية عميد الأدب العربي، وتحليل العناصر الاجتماعية التي تفرز هذا النمط من الحكم، فضلاً عن مطالبتي لهم باقتراح الحلول والإجراءات اللازمة لتحرير الواقع الاجتماعي المصري من هذه التركيبة. كان إجماع المشاركين منصباً على الموافقة على حكم العميد بأن المصريين حكاماً ومحكومين، لا يفهمون الديمقراطية على وجهها الصحيح، ولهذا فهم لم يتداولوا الحكم فيما بينهم في الفترة الليبرالية في النصف الأول من القرن العشرين، بل كانوا يتداولون الاستبداد والاستئثار بالمصالح العامة. الجانب الأهم في إجماع العلماء المشاركين تركز على مصدر الإصلاح، وفي هذا سجلوا أن تجارب الإصلاح والنهضة اعتمدت أساساً على وعي الحكام وحوافزهم الذاتية. ظهر هذا في تجربة النهضة التي أطلقها محمد علي باشا في مطلع القرن التاسع عشر، حيث حمل مصر من واقع التخلف الشامل الذي فرضه الحكم العثماني، إلى واقع جديد مستنير من خلال جهود التحديث وإرسال المبعوثين إلى أوروبا وإعادة تنظيم مؤسسات التعليم الدينية ليتحول التعليم إلى النمط العصري. ومرة أخرى ظهر دور الحاكم مع الخديوي إسماعيل الذي قرر بوعيه الحضاري، تحرير العبيد في مصر رغم أن العبيد كانوا متوائمين مع أوضاعهم ولم يبدوا تمرداً ولا تململاً. ثم ظهر هذا مرة أخرى في وضع دستور 1923 الليبرالي بمبادرة من الملك فؤاد، الذي تأثر بالثقافة السياسية البريطانية واستجاب لمطالب بريطانيا في تحويل مصر إلى ملكية دستورية نيابية مع إعلان استقلالها عن بريطانيا وإنهاء وضع الحماية المفروضة عليها. فوق هذا سجلت السلطة الحاكمة في مصر بعد ثورة 1952 مبادرات لإصلاح الأوضاع الاجتماعية ورعاية حقوق الجماهير الواسعة من الناحية الاقتصادية، بحافز ذاتي من جمال عبدالناصر. أضف إلى هذا مبادرة الرئيس السادات إلى إطلاق صيحة التعددية السياسية عندما أمر بإنشاء المنابر السياسية لإنهاء التنظيم السياسي الأوحد، وهو الاتحاد الاشتراكي. مع الوصول للعهد الحالي تبين أن التعديلات الدستورية التي طرحها الرئيس مبارك في الفترة الأخيرة، جاءت متحررة من أي ضغط خارجي لتمثل استجابة واعية لحاجة مصر نحو التطور الدستوري والسياسي. واجبنا نحن المثقفين يقع في إطار تقدير هذا الدور والتجاوب معه، والدخول في حوار مثمر يشمل تعزيز هذا الدور والإشادة بآثاره التاريخية في النهوض بمجتمعاتنا. هنا تتلاقى جهود السلطة الحاكمة مع آمال المفكرين المصلحين لتنطلق مسيرة الإصلاح المتدرج بانتظام طبقاً لمعايير المصالح الوطنية.